"كان قرينه في كل وجهة من وجهاته، وإن كان في ميله النفسي مخالفاً لطريقة الأستاذ سالم، فلم يكن يؤثر البحث، ويتجرأ على الابتكار، بل كان يؤثر الضبط والتدقيق والتحصيل والإحاطة، وهو ميل أعانه على تنميته ما وهب من قوة الحافظة، واتساع الذاكرة، حتى أصبح في العلوم النقلية مشاراً إليه بالبنان".
وأروع ما وقفت عليه في كتاب (تراجم الأعلام) موقف تربوي رائع للشيخ الإمام عمر بن الشيخ، لو كان لأحد أساطين التربية في أوروبا وأمريكا لسارت به الركبان، وتعد مفخرة المفاخر في نزاهة البحث، وإخلاص النية، وصدق التواضع، فقد عمد الشيخ عمر إلى تدريس كتاب علمي من أصعب كتب علم الكلام وهو كتاب (المواقف) بشرح السيد، فانقطع له الشيخ انقطاعاً تاماً ليصل إلى حقائقه الخافية في أسلوبها الغامض ــ شأن الكثرة من كتب الأعاجم ـ وكان مما ارتآه الشيخ أن يعقد في منزله ليلة الدرس الأسبوعي مجلساً يضم نبهاء الطلاب في حلقته، فيقرأ عليهم درس الغد ليبدي كل طالب رأيه في المقرر المطلوب ويدور النقاش في حرية حتى يهتدي الشيخ إلى معارف طلابه ثم يودعونه، فيظل ساهراً يطالع الدرس، معتمداً الوقوف على الخوافي التي عزت على الكشف في اجتماع الطلاب، ويجتهد في أن يجد حلاً لكل معضلة، وفي الصباح يلتقي بطلابه فيقرأ الدرس من جديد، ويتحدث بما اهتدى إليه بعد أن خرجوا من مجلسه! وقد ظل درس المواقف عشرين عاماً متصلة يلقيه الشيخ في جامع الزيتونة.
وحين زار الشيخ (محمد عبده) تونس سنة ١٣٠٠هـ زار الشيخ وجلس في ساحة الدرس مع الطلاب، وأثنى على الشيخ بما هو أهل له.
فمن من الأساتذة يرى أن يشرك طلابه معه في الفهم على هذا النحو المتصل؟ ومن منهم لا يأنف أن يقول هذه عبارة غامضة لم أهتد إلى معناها، وسأواصل البحث؟!.


الصفحة التالية
Icon