"لقد شد ساعده ممارسته الطويلة للقضاء، وخبرته باختلاف مقتضيات الترجيح والاختيار والتصرف، بسبب اختلاف البلدان، وتباين عوائدها وملائماتها، فكانت دروسه الفقهية بياناً للأحكام بأصولها وعللها، وتقريراً لما فيها من مختلف الأنظار والتخاريج، وفحصاً لما يجد بها من أحوال مكانية وزمانية لا تتحقق فيها المصلحة المقصودة من الحكم إلا بالأخذ بوجهة نظر معينة، أو توليد وجهة نظر جديدة، وبذلك كانت دروس فقهه عمدة العمل القضائي في أفريقية، ووجهت الفقه في فاس وتلمسان ومازونة وباجه وقسنطينة، كما وجهته في تونس نحو الاعتناء بالعمل ضبطاً ونظراً، مما أحدث في المذهب المالكي طوراً جديداً امتاز بكثير من المبادئ والتفصيل في الإجراءات والأحكام الموضوعية، وكانت كتب ابن ناجي هي الأصل في هذا التوجيه".
أقول كم كان يلذ للقارئ أن يتابع (الفاضل) حديثه فيأتي ببعض الأمثلة لهذا التطور في الفقه المالكي، وهذه السهولة المستحدثة في الإجراءات والأحكام الموضوعية، ليجد ما يشفي ظمأه العقلي، ولكن منهج الفاضل في الحديث عن عدة أئمة في حيز محدود حال دون ذلك وأمثاله! وبقي الأمر محتاجاً إلى مؤلفين محدثين يقرأون ما كتب الفاضل عن هؤلاء الكبار ويوسعونه إيضاحاً واستشهاداً وتفصيلاً، بل يوسعونه نقداً إذا وجدوا مجالاً للنقد، وقد طبعت كتب كثيرة لهؤلاء الأعلام فقدمت الأرضية الصلبة التي يجب أن يقف عليها الباحثون، ولم يكن لدى الفاضل صبر والده الطاهر، لأن الوالد كان لا يعجله شئ عن امتداد التحقيق، أترى الشيخ الفاضل قد أحس في أعماقه أن الأجل قريب، وأنه يحب أن يضع الثمار في عدة حقول. ليأتي من يتعهدها بالري والتسميد والإنماء؟ وقد مر الوقت دون أن نجد هذا الآتي المرجو؟ ومن يدري فقد يجئ!