والذين جاءوا من بعدهم وجدوا هذا الأمر مستقراً على أساسه، فلم يسعهم إلا أن يطمئنوا مسلمين إلى أن القرآن كلام ذو معاني تدل عليه تراكيبه اللفظية، وعلى ذلك انعقد إجماع الأمة الإسلامية على أن كل لفظ في القرآن له معناه الإفرادي، وكل كلام له معناه التركيبي، وأنه لم يرد في القرآن ما لا معنى له، ولم يرد فيه نصوص لها معاني لا تفهم إلا بالتوقيف عليها من طرف شخص معين، بل إن كل ما فيه يدل على معاني ظاهرة، دلالته عليها بحسب الوضع اللغوي العربي، وقوانين التركيب العربي.
حتى الطائفة الإسلامية التي شذت في أواخر القرن الأول حيث قالت: إن في القرآن ما لم نفهمه، وهي الطائفة التي عرفت باسم " الحشوية "، إنما أرادت ألفاظاً لها معانيها، لكنها لم تفهم، ومع ذلك فإن الإجماع دحض تلك المقالة وتولى علماء الكلام وعلماء الأصول بيان ما بنيت عليه من إخلال، وكذلك الذين نزعوا إلى النحلة الباطنية، فعطلوا دلالة التراكيب، وأنكروا أن تكون المعاني مستفادة منها بطريق الوضع اللغوي، والتأليف النحوي والبلاغي، فجنحوا إلى الإشارات بإبراز الأعداد، وأسرار الحروف، وزعموا ذلك علماً خفياً يُتلقى ممن عنده بطريق الوراثة أو الوصاية أو الهبة، قد اعتبروا معطلين لمعنى الدين، منكرين لحقيقته، ملحدين عنه إلى الكفر: لما تقتضيه تلك المقالة من إنكار التبليغ، والنزول بالتعاليم الشرعية إلى منزلة العدم، ومدرجة الإباحية، والزج بالحكمة الدينية في المنهج السلبي، الذي تذرعت به السفسطة اللاأدرية (١) إلى نقض مباني الفلسفة العقلية.
فالقرآن العظيم، عندنا معاشر المسلمين، كلام دال على معانيه، دلالة مأخوذة بالطريق الواضح العادي لدلالة الكلام العربي، فليس هو على ذلك بمحتاج إلى التفسير احتياجاً أصلياً، ولكن الحاجة إلى تفسير القرآن إنما هي حاجة عارضة نشأت من سببين: