السبب الأول: هو أن القرآن لم ينزل دفعة واحدة، وإنما كان نزوله وتبليغه في ظرف زمني متسع جداً: قدره أكثر من عشرين عاماً، فكان ينزل منجماً على أجزاء مع فواصل زمنية متراخية بين تلك الأجزاء، وكان نزوله في تقدم بعض أجزائه وتأخر البعض الآخر، على ترتيب معروف يختلف عن ترتيبه التعبدي، لأن ترتيب تاريخ النزول كان منظوراً فيه إلى مناسبة الظروف والوقائع، مناسبة ترجع إلى ركن من أركان مطابقة الكلام لمقتضى الحال.
وترتيب التلاوة، أو الترتيب التعبدي، كان منظوراً فيه إلى تسلسل المعاني وتناسب أجزاء الكلام بعضها مع بعض، وذلك يرجع إلى ركن آخر من أركان مطابقة الكلام لمقتضى الحال، وكلا الترتيبين راجع إلى الوحي، وكلاهما وقع به التحدي الإعجازي. إلا أن أولهما مؤقت زائل بزوال ملابساته من الوقائع والأزمنة والأمكنة.
والترتيب الآخر، وهو ترتيب التلاوة التعبدي، باق لأنه في ذات الكلام، يدركه كل واقف عليه وتال له من الأجيال المتعاقبة، بينما الترتيب التاريخي لا يدركه إلا شاهد العيان لتلك الملابسات، من الجيل الذي كان معاصراً لنزول القرآن، ممن كانت لهم تلك الملابسات دلائل وقرائن على ما أريد من المعاني التي استفادوها من التراكيب القرآنية.
فكان انقراض تلك الملابسات الوقتية محوجاً إلى معرفتها معرفة نقلية تصورية ليتمكن الآتون من استعمال القرائن والدوال، التي اهتدى بها إلى معاني التراكيب القرآنية سابقوهم.
وبذلك طلبوا الرجوع إلى المعارف المنقولة عن تواريخ نزول الآيات، ومحالها، والمناسبات التي جاءت فيها للاستعانة بذلك على استيضاح المعاني المقصودة من التركيب استعانة فقط، لأن للتراكيب دلالاتها الذاتية، التي لا تحددها، ولا تتحكم في تكييفها، تلك المناسبات وإن كانت معينة على استجلائها.