لئن كان الطبري قد نزع علم التفسير نزعاً خرج به عن دائرة علم الحديث، فإن معاصري الطبري من المحدثين لم يهزهم عنف ذلك الانتزاع ولا اقتنعوا بما أثبت المنهج التفسيري الجديد من اختلاف بين طريقتهم وطريقة المفسرين: أهل الدراية والمنهج العلمي فتمسك أولئك المحدثون بطريقتهم النقلية البحتة، وازوروا (١) ازوراراً تاماً عن طريقة البحث والتأويل، ولم يأل الآثار الراجعة إلى التفسير رواية وضبطاً وتقييداً، يجرونها مجرى الآثار السنية في النقد والتمحيص. وكون بُعد المفسرين بمنهجهم العلمي عن الطريقة الأثرية حركة رد فعل هائل في وسط رجال الحديث وأهل الأثر، حصل منها تدافع بين الطائفتين مثل أو قريباً من الذي حدث في ميدان أصول الدين، أو الذي حدث في ميدان الفقه، فأصبح أهل الأثر يعرّضون بأهل التأويل أو أهل التفسير بالرأي، كما يعرض أهل السنة السلفيون بالمتكلمين، أو يعرض الفقهاء أصحاب الحديث بأهل القياس، ويسمونهم أهل الرأي أيضاً.
وفي ذلك التدافع الشريف العنيف بين الطائفتين ظهر بين أهل الأثر من أراد أن يقوي حصون التفسير بالمأثور، ويمتن أسسه ويدفع عنه عوامل التداعي والوهن، حتى يتمكن من الثبات في وجه الهجمة الهائلة، ويستقر على الرجة العنيفة، فرأوا أنه لا يكون تمتين أسس التفسير بالمأثور وتقوية حصونه إلا بالسمو به عن مجاري الحديث الجزاف، وصونه من مداخل المزاعم الواهية.

(١) ١ اتجه اتجاهاً آخر.


الصفحة التالية
Icon