كذلك انشق التفسير على نفسه، وأصبح أهله شعبتين: تتمسك إحداهما بالتفسير بالمأثور وتتحرر الأخرى من التزامه، حتى تتركه وتطعن فيه، وكان من الضروري لجبر هذا الصدع أن يخرج من أهل الأثر من ينصف أهل النظر في ما حملوا على التفسير بالمأثور من إفراط في الثقة بالنقلة وجزاف في سوق الأحاديث، فقيض الله لهذا العمل إمام أهل الحديث وأميرهم: الإمام محمد بن إسماعيل البخاري.
وقد كان البخاري على وجه التقريب معاصراً للطبري، ورأينا في حديثنا الماضي أنهما اشتركا في كثير من الشيوخ، فجعل البخاري أساس عمله في التفسير: اللغة بتحقيق معاني الألفاظ المحتاجة إلى بيان، وضبط مراجع اشتقاقها، ومواقع استعمالها، وتحري ما هو مأثور عن الصحابة، أو مرفوع للنبي ــ ﷺ ــ : من قول في معاني الآيات يجعله معلقاً على الثبوت من طرق ثبوت الحديث عنده، بشروطه الضيقة الدقيقة في المتن والإسناد. فإن ورد بذلك الطريق التزمه وحدث به بأسانيده، وإلا أبقاه على تعليقه غير ملتزم الأخذ به، كما فعل ذلك بالنسبة إلى أخبار السنة، وإن كان عمله هذا في أخبار التفسير أوسع.
وقد ألف على هذا المنهج تأليفاً مستقلاً سماه (التفسير الكبير) لم يصل إلينا، ولا إلى أهل القرون التي مرت قبلنا، وقد ذكره صاحب كشف الظنون، وأسند ذكره إلى صاحب البخاري الإمام محمد بن يوسف الفربري.


الصفحة التالية
Icon