ولكن الذي وصل إلينا من عمل الإمام البخاري في التفسير: هو ما اشتمل عليه جامعه الصحيح، فقد أورد فيه شيئاً كثيراً من أخبار التفسير، حتى كانت الأحاديث المرفوعة إلى النبي ــ ﷺ ـــ من ذلك، بين معلق وموصول، أكثر من ألف حديث، منها ما أخرجه في كتاب خاص معقود لذلك، من كتب جامعه الصحيح: هو كتاب التفسير، الذي رتبه على سور القرآن مترجماً لكل سورة بترجمة، وهو يعادل في مقداره عُشر الجامع الصحيح، ومنها ما تفرق بين الكتب الأخرى من كتب الأحكام وغيرها بمناسبة ما يدخل في مواضيعها من الآيات.
وقد مكن الإمام البخاري بصنيعه هذا، لشيعتين من أهل التفسير: شيعة الآثار، وشيعة الأنظار، بسبب تقارب، ومهد لهم طريق تراجع، إذ حصر الأحاديث المعتد بها في التفسير، فحكم على ما وراءها بالطرح وعدم الاعتداد، وزاد فأوقف على ما حصره من ذلك على ما هو صحيح الرفع فوصله، وعلى ما هو ليس بذلك فأبقاه معلقاً، وهو الكثير الغالب من تلك الآثار، وبذلك اتسع مجال النظر والتأويل على نسبة ما ضاق من مجال الأثر والنقل.
ولقد مكن هذا الوضع لكثير من أهل الطريقة العلمية أن يتذرعوا إلى الحط من شأن الطريقة الأثرية، بنقد أعلامها بأنفسهم، لما هو شائع بين الناس من ضعيف الأسانيد وسقيمها.
فهذا المتكلم الشهير إبراهيم النظام يقول فيما ينقل عنه الجاحظ: "لا تسترسلوا إلى كثير من المفسرين وإن نصبوا أنفسهم العامة وأجابوا في كل مسألة، فإن كثيراً منهم يقول بغير رواية على غير أساس، وكلما كان المفسر أغرب عندهم كان أحب إليهم، وليكن عندكم عكرمة، والكلبي، والسدي، والضحاك، ومقاتل بن سليمان، وأبو بكر الأصم في سبيل واحدة فكيف أثق بتفسيرهم وأسكن إلى صوابهم".
ولا شك في أن للأصول التي تكون عليها المذهب الكلامي القديم مذهب المعتزلة، تأثيراً قوياً في دفع التفسير العلمي في وجهته قدماً يصادم به التفسير بالمأثور وينال منه.


الصفحة التالية
Icon