فإن من الأصول التي قام عليها مذهب الاعتزال وفرقت بينه وبين المذهب السني السلفي، أصل المعتزلة في تأويل متشابه القرآن الذي كان يمسك عن تأويله مذهب أهل السنة.
وذلك لا جرم فاتح للمعتزلة مسلكاً في تقليب أوجه دلالة القرآن على ما يحتملونه له من المعاني غير مفتوح لغيرهم ممن لا يؤولون ممسكين ومفوضين.
ومن هنا جاء الارتباط الظاهر بين نشأة التفسير النظري، وبلوغه أشده، وبين مذهب الاعتزال.
فما كان الموغلون في التفسير العلمي، من معاصري الطبري وأتباعه، إلا من المعتزلة، من أبي مسلم الأصفهاني، وأبي علي الجبائي في القرن الرابع، إلى الشريف المرتضى في القرن الخامس، ولقد أعان ما توفر للكثيرين منهم من رسوخ القدم في علم العربية، بكونهم بصريين، وطول الباع في العلوم الحكمية بكونهم متكلمين، على أن يبلغوا في ما قصدوا إليه من التأويل وتخريج أوجه المحامل مبلغاً عجيباً.
ولكن نزعة من العصبية الغالية قد أوغلت بهم في مسالك التعسف كلما كانت المحامل الواضحة، التي يستدعيها السياق ويقتضيها التركيب، مخالفة لمذاهبهم الكلامية في المعاني الاعتقادية، ونزعة من الغرور الذميم أركبتهم مركب ادعاء: أن آلة التأويل وقف عليهم، لا يحسن غيرهم أن يتعاطاها، بما اشتهر من براعة الشريف المرتضى التي شهدت بها مجالسه المشهورة أو أماليه.
فكانت هبة السُنيين في القرن الرابع حين استشعروا أن الآلات العلمية التي كان المعتزلة يختصون بها ليست وقفاً عليهم، ولا هي كفيلة بنصرة مذهبهم نصرة مطلقة كما يتوهمون، أو يوهمون، عاملاً في أن يتعاطوا مناهج التأويل والبحث والنظر، وأن يبرزوا معاني القرآن محللة مفصلة مثل ما أبرزها المعتزلة، أو خيراً وأتقن مما أبرزوها، بدون أن يكون ذلك مستتبعاً نصرة الاعتزال، وتصحيح مذاهبه، بل إن في المحامل الصحيحة والمباحث الرشيقة دفعاً لما كانوا به يصولون.


الصفحة التالية
Icon