وأما الجهة الثالثة: وهي أهم الجهات كلها: أعني جهة الاختلاف بالسنية والاعتزال، فإنها ترتبط بما كنا مهدناه من أن اختلاف ما بين السنيين السلفيين، والمعتزلة المتكلمين، في القرنين الثاني والثالث، في تأويل متشابه القرآن، قد جعل من الطريقة العلمية الأدبية في التفسير عوناً للمعتزلة على الفوز بالنصر في تلك المجادلات الكلامية، فلما نشأت الطريقة السنية الكلامية وهي طريقة الأشعري نازع السنيون المعتزلة ما كانوا مختصين به من التفسير البلاغي حتى انتزعه من أيديهم قهر الشيخ عبد القاهر الجرجاني، فأصبحت للأشاعرة طريقتهم التفسيرية البلاغية المتوجهة إلى مناقضة ما كان تاه فيه من المسالك مفسرو المعتزلة وتمحيص تخاريجهم، ومناقشة أساليبهم، فأصبحت تفاسيرهم بحوثاً تقويمية نقدية، تمكنوا بها من جولة ظاهرة استكان لها المعتزلة في القرن الخامس، فتطاول الأشاعرة بانتصار علومهم، واستكانة خصومهم.
فلذلك كان تفسير الزمخشري في المواطن الكثيرة التي يختلف فيها وجه تخريج الآية عند المعتزلة عنه عند السنيين التزاماً دفاعياً، وكان تفسير ابن عطية في تلك المواطن نقدياً هجومياً، فكان يمثل صولة الغالب العتيد على المنهزم المتراجع، ولقد قوي هذا في تفسير ابن عطية بما أضيف إليه من عاملي قوة بيانية يرجعان إلى شبابه وعروبته. فإن الشباب أفاده قريحة متقدة ونظرة حادة يتناول بهما موضوعه في قوة وسرعة ومتانة إلمام فيأتي بيانه محبوكاً منسجماً.
والعروبة أفادته طبعاً أصيلاً، وسليقة صافية ففاض بيانه قوياً هتافاً سائغاً سلساً. ولما اختلف عنه الزمخشري بالشيخوخة والعجمة فإن أسلوبه البياني قد جاء متثاقلاً مفككاً، ومواضعه متفاوتة، وتعبيره ثقيلاً كزاً، ترهقه كلفة الصناعة، مع نبوة الطبع.


الصفحة التالية
Icon