ولذلك فلا بدع أن يوصف تفسير ابن عطية بأنه " محرر " لا سيما وقد دفع الشبه، وخلص الحقائق، فحرر ما هو محتاج إلى التحرير. وقد نوه بذلك في مقدمته، وشاعت عند الناس تسميته " المحرر الوجيز " وعلى ذلك بنى صاحب كشف الظنون تعريفه به، وإن كان مؤلفه لم يشر إلى تسميته. وهو " وجيز " بالنسبة إلى التفاسير التي سبقته. أما بالنسبة إلى تفسير الزمخشري، فابن عطية أطرد نفساً، وأكثر جمعاً وتفنناً، فهو وجيز باعتبار طريقة عرضه المباحث، لا باعتبار مقدار جملته، فالزمخشري أقل جمعاً، وإن كان أعمق غوصاً في تحليل الكلام، ومن هنا نشأ ذلك الحكم المشهور، المبني على دقيق المقارنة بين التفسيرين: وهو ما شاع عند العلماء، منذ قرون، وأورده صاحب كشف الظنون مورد القول المأثور، والأمر المشهور، من أن "ابن عطية أجمع وأخلص، والزمخشري ألخص وأغوص".
*****
الإمام الرازي
إن الغلو الذي تورط فيه المعتزلة، حين أفرطوا في اعتماد الحكمة اليونانية والاعتداد بها، فعاملوها معاملة المعارف اليقينية، وأخذوها أخذ الحقائق القارة، مع أنها ليست إلا نظريات افتراضية، وأحكاماً متغيرة، ومذاهب متباينة متناقضة، وقد كان غلواً له أثر سئ في حياة الثقافة الإسلامية في القرنين الثاني والثالث. فقد كان غلو المعتزلة في الاعتداد بحكمة القدماء، حاملاً لحملة السنة، وفقهاء الشريعة على أن يزوروا عن تلك الحكمة وعن أهلها وأن يجنبوا القرآن والدين ما استطاعوا، المساس بها وبهم، فانحاز الدين جانباً، وانحازت الحكمة جانباً آخر.
وتقابلت العصبية، وثبت الدين مكانه والحكمة مكانها فلم يكن ذلك سامحاً للعلوم الحكمية بأن تتطور وتتقدم، ولا للمعارف الدينية بأن تتفتق وتتوسع.


الصفحة التالية
Icon