لما تكلم على حركة الأفلاك وصورها ومدى حركات الكواكب الثابتة واستشعر استغراب المطالع جلب تلك المسائل المغرقة في علم الهيئة والفلك، فوقع له أن عاد إلى التنويه بمنهجه، والتعريض بأصحاب التفاسير الآخرين، بكلام لو وضع في أول الكتاب لكان أبلغ مقدمة له، ببيان منهجه وغايته، حيث قال: "ربما جاء بعض الجهال والحمقى، وقال: إنك أكثرت في تفسير كتاب الله تعالى من علم الهيئة والنجوم، وذلك على خلاف المعتاد. فيقال لهذا المسكين: إنك لو تأملت في كتاب الله حق التأمل لعرفت فساد ما ذكرته".
وقرر ذلك بوجوه: اعتماداً على أن الله تعالى ملأ كتابه الحكيم بمثل تلك الاستدلالات الكونية، وبين في ذلك من عجائب الخلقة، ومدح المتفكرين فيها وأن الناس في ذلك التفكير على درجتين: منهم من يكتفي بالاستدلال الإجمالي، ومنهم من يسمو إلى الاستدلال التفصيلي، وأن لكثرة الدلائل وتواليها أثراً في تقوية اليقين، وإزالة الشبهات. وختم هذا البيان بقوله: "فإذا كان الأمر كذلك ظهر أنه تعالى إنما أنزل هذا الكتاب لهذه الفوائد والأسرار، لا لتكثير النحو الغريب، والاشتقاقات الخالية عن الفوائد، والحكايات الفاسدة. نسأل الله العون والعصمة".
وببيان هذا المنهج، الذي سار عليه الإمام الرازي، يتضح أن إعجاز القرآن كما كان غير محصور في وجه إعجازه البلاغي، وإنه يتجلى في أوجه أخرى غيره: منها الإعجاز العلمي والإعجاز الغيبي، على ما صرح به القاضي عياض في الشفاء، وعلى ما أشار إليه من قبل القاضي أبو بكر الباقلاني في كتابه " إعجاز القرآن "، وأنه إذا كان تفسير الزمخشري قد تكفل ببيان وجه الإعجاز البلاغي، فإن معظم ما يرجع إلى الوجهين الآخرين من الإعجاز لم يتكفل به إلا تفسير الرازي، وذلك ما تعم به حجة إعجاز القرآن جميع أهل العقول والمعارف، من العرب وغيرهم، وينادي به برهان إعجاز القرآن في عموم اللغات.


الصفحة التالية
Icon