وقد أعدت قراءة الكتاب مرات عديدة وأنا في كل قراءة أشعر كأني أقرأ مقالة إبداعية لا بحثاً علمياً، وليس معنى ذلك أن قلم الأديب قد جار على حقيقة العالم، ولكن معناه أن الرجل الكبير قد ارتفع بالأسلوب التأليفي ارتفاعاً بلغ القمة التي تعز على النظراء والأمثال، وقد جلى من الحقائق ما لم يتيسر لغيره لأنه قرأ من تفاسير المغاربة المخطوطة ما لم نجده لدينا في الشرق، فأضاف حقائق كانت حلقاتها مفقودة من قبل، وكان إذا افتتح موضوعاً من أبواب الكتاب لا يدخل في صميمه دون أن يمهد له بمقدمة مستوعبة تربط الغابر بالقابل ارتباطاً يتجلى فيه عمق الغوص وسعة النظر، حتى لأجزم بأثر ابن خلدون في تكوينه العلمي، إذ استفاد من طريقة تناوله ما لم يتح إلا لذوي العمق والاستبصار، ولكي أمتع القارئ ببعض ما أعنيه فإني أنقل له بعض ما فتح به الأستاذ حديثه عن (تفسير أبي السعود) ببعض التصرف اليسير، حيث قال:
"عندما كان التفسير بالمغرب ـ وتونس خاصة ـ يسير على منهج الإملاء والجمع والتحليل، كان التفسير ببلاد الشرق الأوسط في إيران وما وراء النهر راكباً بحر التقرير والبحث والتفكيك مغرقاً فيه، سابحاً بين أمواج متلاطمة من المباحث والأنظار تترامى على عبريه، وكان ربان السفينة الذي أمسك بخيزرانتها، ووضع قطب التحقيق والتمحيص نصب عينيه هو العلامة سعد الدين التفتازاني، ثم أخلافه على طريقته التحقيقية الذين ملكوا قيادة الفكر الإسلامي باسمه خمسة قرون [ وذكر الشيخ نبذاً عنهم ].


الصفحة التالية
Icon