وبذلك فإن تفسير البيضاوي، على ما يبدو عليه من اختصار، وما يتبادر لمتناوله بادئ الرأي من بساطة، قد أصبح كتاباً عميق الغور، صعب المراس، ثري المطاوي، محتاجاً تقريره إلى الرجوع إلى مواده، وبخاصة أصليه العظيمين: تفسير الزمخشري وتفسير الرازي، فأصبح تدريسه ميداناً للملكات الراسخة، ومجالاً لقوة العوارض، ونفوذ الأنظار، وسمو البيان، وتتابعت العناية به لذلك: تدريساً، وتخريجاً، وتأليفاً، فزيادة على الكتب التي ترجع إليه أصالة من الحواشي والتعاليق، التي لا تكاد تدخل تحت حصر، فإنه ما من مفسر للقرآن في القرن السابع وما بعده، إلا وتفسير البيضاوي في طليعة مراجعه.
***
قيمة تفسير البيضاوي
اعتبر تفسير البيضاوي، مبلغ المنهج العلمي في تفسير القرآن، إلى ذروته.
فكان بروزه عندما اكتمل نمو الثقافة الإسلامية، وتفتقت فيها أفانين المعرفة، وتفتحت أزهارها.
وكان انبناؤه على أساس الحكمة السنية الأشعرية، التي ثبت أصلها، ورسخت دعائمها، بما بوأ لها الباقلاني، والإسفرايني، وإمام الحرمين، والغزالي، والمازري، وابن العربي، وعياض، والإمام الرازي: من منزلة مكينة تساقطت دونها منازل المناهج الكلامية المخالفة، حتى اندرجت تحت التراب.
وكان المنهج المتبع في تصنيف البيضاوي، والأسلوب المحتذى في تحريره: هما المنهج والأسلوب اللذين جرى عليهما مصطلح التآليف العلمية في عامة الفنون، من أول القرن السابع: من حيث الاختصار، ودقة التعبير، والتزام المصطلح العلمي، والإشارة إلى ما يتفرع عن التعبير من معان يُكتفى بحضورها في الذهن عن ذكرها، ثم تؤخذ مباني لما يأتي به التعبير بعدها..
فأصبح من مجموع هذه الخصائص لتفسير البيضاوي ميزة واضحة، مزجت بين طريقته ومألوف الطباع، ومتعلق الميول يومئذ: من طرائق شاعت في التأليف، وبنيت عليها المناهج الدراسية.


الصفحة التالية
Icon