ولعل من حكمة الله تعالى، أن ترتيب القرآن الكريم لم يكن على وفق النزول؛ فهو ليس كتاباً في التاريخ يهدف إلى رواية تاريخ الدعوة الإسلامية. وإنما غايته أن يهتدي به الناس- والمؤمنون على وجه الخصوص - إلى يوم القيامة، فيقيموا الدين ويعمروا الأرض. ومن المحال أن تتطابق حركة الدعوة الإسلامية في أي عصر مع حركتها في عصر البعثة؛ فالتاريخ لا يكرر نفسه، بل هي بشارة وضمانة ربانية: أن الدين لن يرجع - مهما بلغت سوء الأحوال - إلى ما كان عليه الوضع قبل البعثة، ليبتدئ من مرحلة: ژ چ چ چ ؟ ؟ ؟ ژ [العلق].
المطلب الأول: من حكم مجيء البقرة أول المصحف:
لا تكاد تمر صفحات قليلة في سورة البقرة، حتى تأتي قصة بدء الخليقة، في بدايات المصحف، لتجيب على السؤال الفطري: من أنا ؟ ولماذا جئت ؟ ومن جاء بي ؟ وإلى أين أنا ذاهب ؟ وما علاقتي بما حولي ومن حولي ؟
فيعرف الإنسان ربه، وذاته، وغاية خلقه وأنها الخلافة عبادة لله تعالى، ويعرف كرامته على من سواه فيربأ بنفسه أن يعبد سوى ربه، أو أن يرعى مع الهمل وقد رُشِّّح لهذه المهمة العظيمة.
ويدرك، فيما يدرك، من قصة آدم؛ جبهة الأصدقاء والأعداء، وعون ربه والملائكة، وأساليب الشيطان وجنوده.
وأمر آخر؛ فالبقرة هي أول الطوال، وأطول السور على الإطلاق. والبدء بها يتناسب وعزائم الناس التي تبدأ عادة، قوية، ثم لا تلبث أن تفتر، وبهذا تظهر الحكمة في أن الأجزاء الأخيرة، تتناقص طولاً حتى نرى قصار السور في آخر المصحف.
ومن الطبعي أن كل من أراد أن يقرأ ختمة كاملة للقرآن الكريم فإنه لا بد أن يبدأ بعد الفاتحة بالبقرة، حتى لو فترت همته بعد ذلك عن إتمام المصحف؛ فإذا عاوده الحنين إلى التلاوة فلا بد أن يبدأ من جديد بالبقرة، ما يعني أن يقرأها المسلم أكثر من غيرها. ولا ننسى أن فيها غاية خلق الإنسان، وحشداً من الأحكام الشرعية، وحديثاً عن أقسام الناس، وهي التي لا يستغني عنها سائر إلى ربه.