ومع أن مفهوم - الصرفة - نشأ في البيئة الاعتزالية بادئ بدء، إلا أن ذلك لا يعني أن مفهومها عندهم جميعا كان واحدا، بل كان لها ثلاثة مفاهيم، هي :-
١- المفهوم النظامي للصرفة الذي ينفي عن القرآن الإعجاز، ويجعله في مستوى الكلام البليغ الذي استحسنته العرب، وحظي عندها، ولا فضل للقرآن في ذلك على غيره، وكان باستطاعة العرب الإتيان بمثله، لولا أنهم صرفوا مقهورين بقوة خارجة عنهم، لا طاقة لهم على دفعها. وهو رأي مرفوض لا يعتد به، ولا يؤبه له - كما سأبين -. وقد كانت رؤوس المعتزلة أول من رفضه، ورده، ولم يتابعه عليه إلا شرذمة قليلة منهم.
يقول الجاحظ (ت ٢٥٥هـ ) مفندا قول النظام، حيث قال مخاطبا أحمد بن أبي دؤاد (١)
( ت ٢٤٠ هـ) :- ( فكتبت لك كتابا أجهدت فيه نفسي، وبلغت أقصى ما يمكن مثلي في الاحتجاج للقرآن، والرد علىالطعان، فلم أدع فيه مسألة لرافضي، ولا لحديثي، ولا لحشوي، ولا لكافر مباد، ولا لمنافق مقموع، ولا لأصحاب النظام، ولمن نجم بعد النظام، ممن يزعم أن القرآن حق، وليس تأليفه بحجة، وأنه تنزيل وليس ببرهان ولا دلالة.) (٢)، فواضح من هذا النص أن النظام لو كان يعترف ولو ضمنيا بأن نظم القرآن وتأليفه معجز، لكان الجاحظ أول من يعرف ذلك، ولما تصدى لنقض صرفة النظام وردها، وإذن فمفهوم الصرفة لدى النظام، وأصحابه، ليس مجرد شعور بالعجز، وانصراف تلقائي، وإنما مفهومها أن الناس كانوا قادرين على مثل القرآن، لولا أن منعهم الله بمنع وعجز أحدثهما فيهم، لذلك لم يجد هذا المفهوم قبولا من الجاحظ، فاستنكره وتصدى لنقضه، ورده، واستنكره أيضا جمهور المسلمين، وردوا عليه ردودا منطقية مقنعة.
(٢) - الجاحظ : حجج النبوة - ص١٤٣-١٤٤.