ومن الواضح أن الصرفة عند الجاحظ بمفهومها هذا، لا ينفي عن القرآن روعته البلاغية، ودرجته العالية في سلم الفصاحة، والبيان، وقد أكد الجاحظ هذه الحقيقة أكثر من مرة، فذهب الى أن وجه الإعجاز في القرآن، إنما هوالنظم والتأليف، وأن القرآن الكريم بلغ القمة في روعة نظمه، والذروة العظمى من البلاغة التي لم يعهد مثلها في تراكيبهم، وتقاصرت عنها درجات بلاغتهم، وقال واصفا بيان القرآن :( وعبت كتابي في خلق القرآن، كما عبت كتابي في الرد على المشبهة، وعبت كتابي في أصول الفتيا والأحكام، كما عبت كتابي في الاحتجاج لنظم القرآن، وغريب تأليفه، وبديع تركيبه.) (١). فهناك فرق بين مفهومي النظام، والجاحظ للصرفة، فالنظام : يرى قدرة المنشئين على أن ينظموا مثل القرآن، والإعجاز في صرف الله لهم عن هذا الصنيع. أما الجاحظ : فلم يستعمل الصرفة بمفهومها النظامي الذي سبق أن أنكره عليه، وإنما استعملها بمفهوم آخر، لا يتنافى والقول بإعجاز القرآن بالنظم. فانصراف العرب عن معارضة القرآن، إنما وقع بعد أن تحداهم الرسول
_ ﷺ – - بنظمه، وهي لذلك ليست تعني أن الله أحدث فيهم منعا، وعجزا، وإنما تعني أن له تعالى تدبيرا، حفظ به القرآن من شغب المعاندين، فصرف أوهامهم ونفوسهم، عن كل محاولة لمعارضة القرآن، لما قد يدخل بذلك من الشبه على ضعاف العقول، ولما قد ينشأ عنه من الفتنة.