ومما يدل على أن الجاحظ لم يكن يحس بأي تعارض بين الصرفة بهذا المفهوم وبين نظرية النظم، أنه جمع بين النظريتين في مكان واحد، فبعد أن انتهى من تقرير مبدأ الصرفة، قال :( وفي كتابنا المنزل الذي يدل على أنه صدق، نظمه البديع الذي لا يقدر على مثله العباد، مع ما سوى ذلك من الدلائل التي جاء بها من جاء به ) (١). فكلام الجاحظ ينص على أن الذي أعجز العرب، هو نظم القرآن البديع، وأن النظم هو الذي تحداهم به الرسول – - ﷺ -. أما حديثه عن صرف الله لهمم العرب عن محاولة محاكاته، فهو يبرز معنى فيه منة امتن الله بها على المسلمين، حين لم يتكلف بعض المتكلفين معارضة القرآن، ولو فعل ذلك بعضهم، فليس المخوف عندئذ أن يأتي بكلام من مثله، فذلك مستحيل بنص كلام الجاحظ السابق، ولكن المخوف هو أن يأتي بكلام ينخدع به بعض الضعفاء، ويتعلقون به، كما تعلق أصحاب مسيلمة بما ألفه لهم من هراء، وعندئذ يحدث ما يشوش على القرآن، عندما يوجد من يستجيد ما ادعي أنه معارضة له، فيدافع عنه، ويزعم أنه قد عارض، وقابل، وناقض، فيكثر القيل والقال، فكان هذا التدبير الإلهي، لئلا يكون لأهل الشغب متعلق يتعلقون به. (٢) فلم يكن إذن تناقض، أو اضطراب في رأي الجاحظ، في إعجاز القرآن
(٢) - د. عبد الغني محمد سعد بركة : الإعجاز القرآني، وجوهه وأسراره، ص ٦٢. والسيوطي : الإتقان ج٤ / ص ٦.