وكان العرب حين نزول القرآن كأنما شدوا بأمراس كتان الى صم جندل، فهم يسمعون القرآن ويعجبون به، ويكادون يسجدون لفصاحته، ويوقنون -يقين العارف الخبير- أنه ليس من قول البشر (١)، لقد كان الذوق العربي السليم يساعد أصحابه على إدراك الأساليب القرآنية في مخاطباته، وكانت قدسية القرآن وعظمته مسيطرة على نفوسهم، وكان الإقرار بالعجز عن الارتفاع إلى مستواه كامنا في النفوس. ومضى القرن الأول، وتبعه القرن الثاني، والعلماء لا يمسون نواحي إعجاز القرآن إلا مسا خفيفا، فلما كان القرن الثالث، وبدأت السليقة العربية تفقد صفاءها، وبدأت الثقافات المختلفة، والفلسفات الهندية، والفارسية، واليونانية، تتسلل إلى المجتمع الاسلامي، اتسعت الخلافات المذهبية، وتعددت النحل، وتفرقت الأهواء والسبل، واحتدمت المعارك، وقويت الخصومة، وعنف الجدل حول الآراء الكلامية، وكان إعجاز القرآن أحد الميادين الكثيرة التي تبارت فيها الفحول، وتصاولت في رحابها الوسيعة القروم، وبدأ الحديث عن سبب عجز العرب عن الإتيان بمثل أقصر سورة من سور القرآن، فبرز قول غريب في البصرة التي كانت تموج بالتيارات الفكرية المختلفة، مفاده : أن إعجاز القرآن ليس لشيء ذاتي فيه، وإنما هو لصرف الله تفكير العرب عن معارضته، وهو القول الذي تبناه فيما بعد : ابراهيم بن سيار النظام، أحد شيوخ المعتزلة في البصرة، وعرف هذا القول فيما بعد بالصرفة، عند ذلك عكف العلماء على دراسة كتاب الله بصورة علمية منظمة لاستجلاء مواطن الجمال في تعبيره الفني، والأسرار البلاغية في بيانه المعجز (٢)،
(٢) - د. نعيم الحمصي : فكرة إعجاز القرآن، ص ٩٨، ..