بهذا التوجيه أو نحوه، يعزى القول بالصرفة إلى : أبي اسحق الاسفراييني من أهل السنة، والنظام من المعتزلة، والمرتضى من الشيعة. وأنت إذا تأملت هذه الفروض الثلاثة التي التمسوها، أو التمست لهم، علمت أن عدم معارضة العرب للقرآن لم تجئ من ناحية إعجازه البلاغي في زعمهم، بل جاءت على الفرضين الأولين، من ناحية عدم اكتراث العرب بهذه المعارضة، ولو أنهم حاولوها لنالوها، وجاءت على الفرض الأخير، من ناحية عجزهم عنها بسبب خارجي عن القرآن، وهووجود مانع منعهم منها قهرا، ذلك المانع هو : حماية الله لهذا الكتاب، وحفظه إياه من معارضة المعارضين، وإبطال المبطلين. ولو أن هذا المانع زال لجاء الناس بمثله، لأنه لا يعلو على مستواهم في بلاغته ونظمه.
وبعد أن ذكر الزرقاني شبه القائلين بالصرفة، أخذ في تفنيد شبههم فقال : وهذا القول بفروضه التي افترضوها، أو بشبهاته التي تخيلوها، لا يثبت أمام البحث، ولا يتفق والواقع.
أما الفرض الأول : فينقضه ما سجل التاريخ وأثبت التواتر، من أن دواعي المعارضة كانت قائمة موفورة، ودوافعها كانت ماثلة متآخذة، وذلك لأدلة كثيرة :
منها : أن القرآن تحداهم غير مرة أن يأتوا ولو بمثل أقصر سورة منه، ثم سجل العجز عليهم، وقال بلغة واثقة : إنهم لم يستطيعوا أن يفعلوا، ولن يفعلوا، ولو ظاهرهم الإنس والجن، فكيف لا تثور حميتهم إلى المعارضة بعد هذا، ولو كانوا أجبن خلق الله. ؟
ومنها : أن صناعتهم البيان، وديدنهم التنافس في ميادين الكلام، فكيف لا يطيرون بعد هذه الصيحة إلى حلبة المساجلة. ؟
ومنها : أن القرآن أقام حربا شعواء على أعز شيء لديهم، وهي عقائدهم المتغلغلة فيهم، وعوائدهم المتمكنة منهم، فأي شيء يلهب المشاعر ويحرك الهمم إلى المساجلة أكثر من هذا.. ؟ ما دامت المساجلة هي السبيل المتعين لإسكات خصمهم لو استطاعوا.