١٤- وأخيرا لا آخرا تأثير القرآن في أنفس العرب :- فقد أجمع أساطين الأدب والبيان- قديما وحديثا -، على أن للعرب في عصر الرسالة قدما راسخة في البيان، وبلاغة المنطق، وتذوق الكلام، والتمييز بين جيده ورديئه، وليس أدل على ذلك مما قاله الجاحظ في كتابه
-حجج النبوة -، حيث قال :- ( بعث الله محمدا- ﷺ - أكثر ما كانت العرب شاعرا وخطيبا، وأحكم ما كانت لغة، وأشد ما كانت عدة، فدعا اقصاها وأدناها إلى توحيد الله، وتصديق رسالته، فدعاهم بالحجة، فلما قطع العذر وأزال الشبهة، وصار الذي يمنعهم من الاقرار الهوى والحمية، دون الجهل والحيرة، حملهم على حظهم بالسيف، فنصب لهم الحرب ونصبوا، وقتل من أعلامهم، وعليائهم، وأعمامهم، وبني أعمامهم، وهو في ذلك يحتج عليهم بالقرآن، ويدعوهم صباحا ومساء إلى أن يعارضوه إن كان كاذبا بسورة واحدة، أو بآيات يسيرة، فكلما ازداد تحديا لهم بها، وتقريعا لعجزهم عنها، تكشف من نقصهم ما كان مستورا، وظهر منه ما كان خافيا..
إلى أن يقول : إن القرآن إذ تحداهم بالحجة، ولم يقدروا على الإتيان بمثله عجزا منهم ووهنا، لا تهاونا وتغافلا، لأن الاتيان بمثل أصغر سورة منه كان كفيلا بأن يكفيهم قتل الأنفس والأولاد، وأن التقريع بالعجز أشد على نفوس العرب، والبدو خاصة، لما فيهم من الأنفة والعزة، فكيف والقرآن يتحداهم في أخص خصائصهم وهو البيان، وهم قد عرفوا فيه بالبراعة والبلاغة.. ؟ ) (١).
ومع عناد مشركي مكة، ومحاربتهم لدعوة محمد - صلى الله عليه وسلم-فإن فصحاءهم لم يكتموا إعجابهم ببلاغة القرآن، وحسن تعبيره، وقوة تأثيره، وجمال نظمه، وروعة إيقاعه.