والمادة الخضراء التي ورد ذكرها في الشرح الآنف الذكر هي ما أشارت إليه الآية الكريمة بكلمة ﴿خَضِراً﴾، وإخراج هذا (الخَضِر) - أي المادة الخضراء - يأتي بعد إخراج النبات من الماء، وإذا تابعنا عملية خَلق النبات حسب تسلسلها في آية الأنعام - ٩٩ - وجدناها موضحة بعوامل خلق ثلاثة، وهي كما يأتي:
١- عامل الخلق الأول لكل النبات: هو الماء؛ ﴿وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ نَبَاتَ كُلِّ شَيْء﴾.
٢- عامل الخلق الثاني: هو المادة الخضراء التي تشير إليها الآية بكلمة ﴿خَضِراً﴾ ؛ ﴿فَأَخْرَجْنَا مِنْهُ خَضِراً﴾.
٣- عامل الخلق الثالث: وهو إخراج الحب والثمر المتباين والمختلف حجما وشكلا، بين قمح وعنب ورمان وزيتون... الخ. قال تعالى: ﴿نُخْرِجُ مِنْهُ حَبّاً مُتَرَاكِباً وَمِنَ النَّخْلِ مِنْ طَلْعِهَا قِنْوَانٌ دَانِيَةٌ وَجَنَّاتٍ مِنْ أَعْنَابٍ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُشْتَبِهاً وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ﴾ ١.
والحبّ المتراكب كالسنابل وأمثالها، والقنوان جمع (قنو)، وهو الفرع الصغير، وفي النخلة هو (العذق) الذي يحمل الثمر، ولفظة ﴿قِنْوَانٌ﴾ ووصفها ﴿دَانِيَةٌ﴾ يشتركان في إلقاء ظل لطيف أليف، وظل المشهد كله ظل وديع حبيب.. ، ﴿وَجَنَّاتٍ مِنْ أَعْنَابٍ﴾.. ﴿وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ﴾.. هذا النبات كله بفصائله وسلالاته - ﴿مُشْتَبِهاً وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ﴾ - أي: (مشتبها في الخلق مختلفا في الطعم) ٢، أو (بعضه متشابه وبعضه غير متشابه في القدر واللون والطعم) ٣، ﴿انْظُرُوا إِلَى ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَيَنْعِهِ﴾.. انظروا بالحس البصري والقلب اليقظ، انظروا إليه في ازدهاره، وازدهائه عند كمال نضجه، انظروا إليه واستمتعوا بجماله.. لا يقول هنا: كلوا من ثمره إذا أثمر، ولكن يقول: ﴿انْظُرُوا إِلَى ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَيَنْعِهِ﴾ ؛ لأن المجال هنا جمال ومتاع، كما أنه مجال تدبر في آيات الله، وبدائع صنعته في مجال الحياة٤.
والآية الكريمة من سورة الزمر - ﴿أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَلَكَهُ... ﴾ الآية - توجه الأنظار للتأمل والتدبر في ظاهرة تتكرر في أنحاء الأرض، حتى لتذهب بجدتها وما فيها من عجائب في كل خطوة من خطواتها.. ؛ فهذا الماء النازل من السماء.. ما هو وكيف نزل؟.. إننا نمر بهذه الخارقة سراعا لطول الألفة وطول التكرار، إن خلق الماء في ذاته خارقة، ومهما عرفنا أنه ينشأ من اتحاد ذرتَيْ أيدروجين بذرة أكسوجين تحت ظروف معينة؛ فإن هذه المعرفة خليقة أن توقظ قلوبنا إلى رؤية يد الله التي صاغت هذا الكون بحيث يوجد الأيدروجين ويوجد الأكسوجين، وتوجد الظروف التي تسمح باتحادهما، وبوجود الماء من هذا الاتحاد، ومن ثم وجود الحياة في هذه الأرض.. ولولا الماء لما وجدت

١ الأنعام: ٩٩.
٢ تفسير الطبري: ١١/٥٧٨ تحقيق محمود محمد شاكر، دار المعارف.
٣ تفسير الزمخشري: ٢/٤٠.
٤ انظر منهج الفن الإسلامي محمد قطب ص ٢١٨- دار القلم.


الصفحة التالية
Icon