ولا ينبغي أن نتصور جراء ذلك أن العرب كانوا عطلاً عن البلاغة والبيان، فذلك مالم نَقُلْهُ ولم نقصد إليه، فقد أوتيَ العرب الفصاحة والبلاغة، وتبوأ خطباؤهم وشعراؤهم منزلة رفيعة في الترتيب القبلي، وسارت بقصائد شعرائهم الركبان، وعلقت روائعهم على جدران الكعبة، ولا تزال إلى اليوم تلهم النقاد والأدباء ما رَقَّ ودَقَّ، وعزَّ وشقَّ من لطيف العبارة وعجيب البيان. ولكنهم على ذلك لم يكونوا يمتلكون كتاباً أمَّاً يرجعون إليه في تمييز الصحيح من الدخيل، ويقَعِّدون على أساسه قواعد نطقهم.
كذلك فإنهم لم يعدموا لساناً مفهماً يتحاورون فيه، ويتبادلون على أساسه حوائجهم ومعارفهم وخبراتهم، ولكن إرهاصات الشقاق اللغوي كانت قد تهيأت
تماماً ومضت في سبيلها المتناكس، وشجع على ذلك نمو العصبية القبلية، والاتصال بالعجم، وغياب أي شكل جدّي من أشكال الوحدة العربية المطلوبة.
وبوسعك أن تتصور أي مستقبل كان ينتظر اللغة العربية في ضوء هذه المعطيات، لولا الثورة اللغوية التي أعقبت نزول القرآن الكريم. وانتشار قرائه وحفاظه في الأمصار يجمعون الناس على منهج واحد، وبهم تبوأت اللغة العربية مكانها، وتأصَّل الصحيح محل ما يجب هدمه من رطانة وانحراف، ولغات ضالة لا تنتمي إلى أصول الكلام العربي.
وأما اللهجات العربية المحترمة، فقد تكفلت بحفظها القراءات القرآنية، التي أذن بها رسول الله - ﷺ - ولدى الاستقراء فإنك تجد أنها تحتوي على كثير من اللهجات العربية ولكنها محكومة بضابط من القواعد يمكن ردها إليها، والاحتكام على أساسها.