لقد كانت اختيارات النبي - ﷺ - في أمر القراءة المأذون بها، تتم فيما يمكن تسميته بمطبخ اللغة العربية على أساس الإجماع العربي، حيث تم تمييز الأصيل من الدخيل من كلام العرب وأمكن حينئذٍ أن تبدأ جهود علماء اللغة في تأصيل القواعد وتحريرها، الأمر الذي نتجت عنه علوم النحو والصرف والبلاغة والعروض وما لحق بها من معارف تفصيلية جعلت لغة العرب من أضبط اللغات قواعداً، وأكثرها تعليلاً، وأوضحها معالجةً.
وعلى ضوء ذلك تم ترتيب البيت الداخلي للسان العرب، وتوفرت الوثيقة المعتمدة لضبط اللسان العربي، وهي القرآن الكريم وفق ما رتَّله النبي - ﷺ - من وجوه القراءات، وتَلقَّاه عنه أصحابه الكرام.
وهكذا فقد أصبحت الجزيرة العربية تعتمد لساناً عربياً واحداً، مهما اختلفت فيه من شيء ردته إلى الكتاب الإمام، بعد ذلك التفت العرب إلى أراضيهم المسلوخة عنهم في بلاد الشام والعراق والشمال الأفريقي، وقد تزاحمت فيها رطانات الأمم الغالبة. حتى لم يبق للعربية أثر يذكر في لغة الحياة.
فكانت بلاد الشام تتكلم لغات محلية إقليمية وأجنبية فيها الآرامي والسرياني والرومي، وكان أهل العراق يتكلمون لساناً فارسياً، وكان لبنان فينيقياً، وكانت مصر ضائعة في لهجاتها الفرعونية القبطية والرومية، وكان الشمال الإفريقي يتكلم لساناً بربرياً. بالرغم من الأصول العربية المؤكدة التي تنتمي إليها هذه الشعوب. ولم يكن ثمة شيء يكفل أن تعود تلك الشعوب إلى لسانها العربي بعد أن تركته قروناً كثيراً، لولا أن تمت نعمة الله على هذه الأمة بنزول القرآن الكريم، ولولا توفر الإرادة الكافية لدى الرعيل الأول في العهدين الراشدي والأموي لجمع القرآن العظيم وثائق ومشافهات لتصبح من ذلك الحين عماد اللسان العربي في النحو والنطق(١١).
﴿كتاب فصلت آياته قرآناً عربياً لقومٍ يعلمون﴾.(١٢)