ولقد تنافس الناس فيها، ورغبوا من اقتناء النسخ الصحاح بها إلى غاية، حتى إنه كانت عندي نسخة باللامية (الشاطبية) أو الرائية (عقلية أتراب القصائد في (الرسم) بخط الحجيج صاحب السخاوي مجلدة فأعطيت بوزنها فضة فلم أقبل. ولقد بالغ الناس في التغالي فيها وأخذ أقوالها مسلَّمةً واعتبار ألفاظها منطوقاً ومفهوماً
حتى خرجوا بذلك عن حد أن تكون لغير معصوم، وتجاوز بعض الحد فزعم أن ما فيها هو القراءات المتواترة وما عدا ذلك شاذ لا تجوز القراءة به.(٤٩٤)
ولا شك أن هذا المبلغ في تقدير عمل الشاطبي لم يتأتَّ من فراغ، وإنما هو أثر طبيعي لدقة هذا الإمام وموسوعيته ومنزلته في هذا الفن، حتى قال عنها الإمام الذهبي:
(وقد سارت الركبان بقصيدتيه (حرز الأماني) و (عقيلة أتراب القصائد) اللتين في القراءات والرسم، وحفظهما خلق لا يحصون، وخضع لهما فحول الشعراء وكبار البلغاء، وحذاق القراء).(٤٩٥)
وقال فيها الإمام ابن الجزري:
(ولا أعلم كتاباً حُفِظ وعُرض في مجلس واحد، وتسلسل بالعرض إلى مصنفه كذلك إلا هو).(٤٩٦)
ولما كان الشاطبي قد اقتصر على القراء السبعة فلم يأخذ لمن بعدهم، جاء الإمام ابن الجزري فنظم قصيدته (الدرة المضية والوجوه المسفرة في القراءات الثلاث تتمة العشرة) في ٢٤٣ بيتاً ضم إلى السبعة الأولى القراءات الثلاث، ونهج سبيل الشاطبي نفسه في الطرق والإسناد، وكذلك جرى في القصيدة حيث نظم من البحر الطويل نفسه متبعاً طريقة الرمز ذاتها.
وهكذا فإن الطريق الأول لجمع القراءات في زماننا هو ما ضبطه الشاطبي وأكمله ابن الجزري في الدرة.
وغالب القراء في بلاد الشام إنما تحصلوا على الجمع من طريق الشاطبية والدرة.


الصفحة التالية
Icon