أجد من الضروري هنا أوضح على هذه العبارة الجريئة، فقد يقرؤها من لم يقرأ سائر الكتاب فيظن في كتاب الله الظنون فيهلك.
والخلاصة أن المصحف بحمد الله معصوم من الزيغ والنقص في نسختيه: الأدائية كما يرويها الأئمة، والكتابية كما أقرأها عثمان رضي الله عنه في مصاحف الأمصار، ولكن هذا الغياب نشأ من الوسائل التعليمية التي ألحقت بالمصاحف للعامة كالنقط والشكل الذي لا يمكنه أن يحيط بأكثر من وجه من الوجوه الجائزة.
الباب الثالث: أثر القراءات في الأحكام الشرعية
تمهيد في طبيعة اختلاف القراءات وجدواها:
لا بد هنا من التذكير بالقاعدة التي بسطنا القول فيها(٥٧٥) حول وجوب إعمال القراءات المتواترة جميعا، وأن تعدد القراءات يُنَزَّل منزلة تعدد الآيات، وكلاهما قاعدة اتفاقية لا يوجد لها مخالف من أهل التوحيد.
وإذا نقل عن بعض الأقدمين تشككهم في بعض وجوه القراءة المتواترة فإن مرد ذلك بكل تأكيد هو عدم ثبوت تواتر هذه القراءة عندهم في ذلك الزمان.
أما وقد اتفقت الأمة على التواتر في هذه الوجوه فلا مندوحة من القول بأن سائر هذه الوجوه قرآن منزل، بالاتفاق بين سائر أهل الملة.
كذلك ينبغي القول بأن هذه الاختلافات ليست متناقضة بمعنى أن المفسر يُلجأ إلى هدر أحد الوجهين إذا اعتمد الآخر، بل هي ذات معان متضامنة، يكمل بعضها بعضاً، وقد يدل الوجه على ما لا يدل عليه أخوه، ولكنه لا ينافره ولا يضادّه، بل بمنحك معنى جديداً يضيء لك سبيل التفسير.
ثم إن هذه الوجوه كما سنرى يسيرة قليلة، وهي لا تشبه في شيء اختلاف الأمم الأولى في كتبها لا شكلاً ولا مضموناً.
فمن حيث الشكل يختلف أهل الكتاب في إثبات أسفار بحالها أو إسقاطها، ربما تتجاوز عدتها عشرات الصفحات، فأين ذلك مما نحن فيه من إثبات فتحة أو ضمة، أو واو أو فاء، أو فتح أو إمالة، أو إدغام أو إظهار.


الصفحة التالية
Icon