ونشير هنا إلى أن التفويض غنية المؤمن، وفيه سلامة اعتقاده، وتمام أدبه مع الله عز وجل، ولكن إذا عرضت للمرء والشبهات، أو قصد بيان العقيدة الإسلامية لأهل الشكوك، فإنه لا مندوحة من التأويل الدافع لإيهام التناقض، ويكون المؤول حينئذ يدفع الفتنة لا يبتغيها، فلا يكون مشمولا بقوله سبحانه ﴿فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله﴾(٥٩٠)
وتجد اختصار هذه المعاني جميعا في عبارة الأصوليين:
(مذهب السلف أسلم، ومذهب الخلف أحكم، والله سبحانه أعلم)(٥٩١)
وبعد الذي قدمته لك من مذاهبهم في التشابه والإحكام، فإنه ظهر لك أن أمر اختلاف القراءات في آيات الأحكام ليس من باب التشابه، بل إن القراءات المتواترة في الآية الواحدة سبيل إلى دفع التشابه المتوهم فيها.
ومن الأمثلة الظاهرة على أن تواتر القراءة يدفع توهم التشابه ما يلي:
(ملاحظة: الأمثلة هنا من باب الأحكام الاعتقادية، إذ ليس في الأحكام الفقهية متشابه أصلا)
قوله تعالى:
﴿ولكل وجهة هو مولِّيها﴾(٥٩٢)
الظاهر فيها استلاب التكليف من العبد، وقد دفع هذا الظاهر بالقراءة المتواترة: ﴿ولكل وجهة هو مولاَّها﴾(٥٩٣)
قوله تعالى:
﴿ليَعلَم أن قد أبلغوا رسالات ربهم﴾(٥٩٤)
الظاهر فيها تعليل مجريات الأحداث بقصد إطلاع المولى على صنيع أنبيائه، فدفع هذا التوهم بالقراءة المتواترة: ﴿ليُعلَم أن قد أ بلغوا رسالات ربهم﴾(٥٩٥)
قوله تعالى:
﴿حتى إذا استيئس الرسل وظنوا أنهم قد كُذِبوا﴾(٥٩٦)
الظاهر فيها أن الرسل ظنوا أن الوحي الإلهي كذبهم، فدفع هذا التوهم بالقراءة المتواترة: ﴿وظنوا أنهم قد كُذِّبوا﴾(٥٩٧)
قوله تعالى:
﴿وذا النون إذ ذهب مغاضباً فظن أن لن نَقْدِرَ عليه﴾(٥٩٨)
الظاهر فيها أن ذا النون عليه السلام ظن أنه أعْجَزَ الله بهربه، فدفع هذا التوهم بالقراءة المتواترة: ﴿فظن أن لن يُقْدَر عليه﴾(٥٩٩) أي من قبل قومه.