واختار هذا الرأي أيضاً أبو عبيد القاسم بن سلام ولكنه أطلق ولم يخص به النبي - ﷺ - وحده فقال: (إن الله إذا شاء أنسى من القرآن من يشاء أن ينسيه)(٧٠٩)، وهو كما ترى غير مخصوص بما ضبطه به ابن قتيبية بأنه أراد: ﴿أو ننسكها﴾ من النسيان(٧١٠).
وقد اختار الجصاص في تفسير أحكام القرآن أن قراءة ننسأها إنما هي بأن يؤخرها فلا ينزلها سبحانه، وينزل بدلا منها ما يقوم مقامها في المصلحة، أو يكون أصلح للعباد منها، ويحتمل أن يؤخر إنزالها إلى وقت يأتي، فيأتي بدلاً منها لو أنزلها في الوقت المتقدم فيقوم مقامها في المصلحة(٧١١).
فيكون اختيار الرازي الجصاص هنا أن الآية دلالة على إنساء التنزيل، بينما اختار أبو زرعة أنها دلالة على إنساء النسخ. ويتحصل هنا ثلاثة أقوال:
١ - ننسها: من النسيان
٢ - ننسأها: من الإنساء وهو التأخير بمعنى تأخير النسخ.
٣ - ننسأها: من الإنساء أيضا بمعنى تأخير التنزيل.
وكما ترى فإن الخلاف في تأويل الإنساء في قراءة ابن كثير وأبي عمرو أنتج قولا ثالثاً، والأقوال الثلاثة متكاملة ينهض بعضها ببعض، ولا يتعذر على اللبيب الإفادة من الأوجه الثلاثة مجتمعة لتكامل مقاصدها.
وثمرة الخلاف أن التنزيل العزيز يطرأ عليه إنساء ونسيان، فقد يؤخر الله نسخ حكم فيبقى متلواً معمولاً به، وهو النسيء أي التأجيل، حتى يأتي ما ينسخه، وقد ينساه النبي - ﷺ - بإذن الله وأمره، قال سبحانه: ﴿سنقرئك فلا تنسى إلا ما شاء الله﴾(٧١٢) فيرفع من التنزيل، ثم يكون من الله سبحانه ما ينسخه من وحي يتنزل.
وهكذا فإن ورود قراءتين اثنتين أفاد معنيين اثنيين لم يكن لك أن تدركهما بقراءة واحدة، وكل واحدة من القراءتين تضيف صفة جديدة للتنزيل الإلهي على الأنبياء الكرام.


الصفحة التالية
Icon