والنسخ لا يتعلق بالعقائد والأخبار وإنما يتعلق بالإنشاء(٧١٩)، وهذا الباب متصل بأحوال الخلق، إذ يصلحهم ويصلح لهم في حال ما لا يصلحهم ولا يصلح لهم في حال آخر.
ألا ترى أن الطبيب يأمرك بالحمية اليوم وينهاك عنها غداً، ويصف لك الدواء اليوم ويأمرك باجتنابه غداً، والطبيب هو الطبيب، لم يتغير في حاله وفي علمه شيء، وإنما تغير المريض.
وأظهر الدلالة على وقوع النسخ هذه الآية الصريحة التي لا يقرؤها أحد بحيدة إلا يفهم منها ما فهمته الأمة، وكذلك قول الله عز وجل: ﴿وإذا بدلنا آية مكان آية والله أعلم بما ينزل قالوا إنما أنت مفتر﴾(٧٢٠).
وأما وقوعه بالفعل فهو أكثر من أن يستدل له بمثال، ومع ذلك نعد من الأمثلة قول الله تعالى: ﴿سيقول السفهاء من الناس ما ولاَّهم عن قبلتهم التي كانوا عليها﴾(٧٢١)
فهذا دليل ظاهر أنهم أمروا باستقبال قبلة، ثم نسخ هذا الأمر وأمروا باستقبال سواها.
وقوله تعالى: ﴿الآن خفف الله عنكم وعلم أن فيكم ضعفاً فإن يكن منكم مائة صابرة يغلبوا مائتين، وإن يكن منكم ألف يغلبوا ألفين﴾(٧٢٢)
وهو دليل ظاهر أنهم أمروا بأكثر من ذلك ثم خفف الله عنهم بنسخ الأمر السابق.
قال الإمام المفسر القرطبي: (وقد أنكرت طوائف من المنتمين للإسلام من المتأخرين جواز النسخ، وهم محجوجون بإجماع السلف السابق على وقوعه في الشريعة).
وقال: (معرفة هذا الباب أكيدة، وفائدته عظيمة، لا تستغني عن معرفته العلماء، ولا ينكره إلا الجهلة الأغبياء)(٧٢٣).
ثم إن النسخ صورة واضحة لمرونة هذا الدين ومسايرته لشتى أحوال الناس في انتقالهم وترقيهم، وهو بحق مفخرة من مفاخر التشريع الإسلامي ودليل أكيد على صلاحيته لكل زمان ومكان.
ولدى ثبوت تواتر القراءتين فإنه يلزم الاعتقاد أن القرآن العظيم يطرأ عليه نسيان وإنساء ـ تأخير ـ، وذلك كله بأمر الله وحكمته.