قال أهل البصرة ـ يريد الكسائي وأصحابه ـ المعنى: (هل تستطيع سؤال ربك) فحذف السؤال، وألقى إعرابه على ما بعده فنصبه كما قال: واسأل القرية أي أهل القرية.(٧٨٤)
والمراد أنهم حين ذكروا الاستطاعة أرادوا بها الاحتجاج للسيد المسيح عليهم، كأنهم قالوا: إنك مستطيع فما يمنعك؟ ولا يستقيم الكلام إلا على تقدير ذلك، ألا ترى أنه لا يصح أن يقول: (هل تستطيع أن يفعل غيرك)(٧٨٥).
وأما قراءة الجمهور بالغيبة والرفع فيجب توجيهها إلى تأويل الاستطاعة بمعنى الرغبة، أي هل يرضى ربك أن ينزل المائدة إن سألته ذلك، كما يقول من يبتغي النصرة من عزيز: أتقدر أن تساعدني في ذلك، وهو يعلم قدرته واستطاعته، ولكنه لون من الأدب تعرفه العرب في كلامها.(٧٨٦)
وقيل المعنى: هل يقدر ربك، وكان هذا السؤال في ابتداء أمرهم قبل استحكام معرفتهم بالله عز وجل ولهذا قال عيسى في الجواب: اتقوا الله إن كنتم مؤمنين(٧٨٧).
ولكن اعترض القرطبي على هذا التأويل لأن الحواريين خلفاء الأنبياء ودخلاؤهم وأنصارهم، كما قال الله حكاية عنهم وإقراراً لهم: ﴿قال الحواريون نحن أنصار الله﴾(٧٨٨) وقد قال النبي - ﷺ -: "إن لكل نبي حواري وحواريي الزبير(٧٨٩)"، ولا يخفى أن معرفة الله سبحانه أول الواجبات على المؤمن، فكيف يصبح هؤلاء حواريين للسيد المسيح ثم لا يعرفون صفة القدرة منه سبحانه وتعالى؟(٧٩٠)
ولعل أحسن تأويل لذلك أن يقال: إنهم عرفوا الله عز وجل معرفة استدلال وأخبار فأرادوا علم معاينة وشهود، كما قال إبراهيم عليه السلام: ﴿رب أرني أنظر إليك﴾(٧٩١) فإن إبراهيم من أعظم المؤمنين بقدرة الله سبحانه وكماله ووحدانيته، ثم سأل الآية وعلل ذلك بقوله: بلى ولكن ليطمئن قلبي(٧٩٢). وكذلك قال الحواريون ﴿نريد أن نأكل منها وتطمئن قلوبنا ونعلم أن قد صدقتنا ونكون عليها من الشاهدين﴾(٧٩٣)