وليس يحتاج المتأمل كثير نظر ليدرك أن القراءتين متوجهتان من جهة المعنى والرسم واللغة والتواتر ففي الخمر والميسر إثم كثير وإثم كبير.
وفي السياق: وإثمهما أكبر من نفعهما، وإجماع الكل على أنها بالباء، ثم إن الذنب يوصف إذا كان موبقاً بأنه كبيرة، وفي ذلك قول الله عز وجل: ﴿الذين يجتنبون كبائر الإثم والفواحش﴾(١٢٥٤) وقوله: ﴿إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه نكفر عنكم سيئاتكم﴾(١٢٥٥) وأورد أبو زرعة حجة لجمهور القراء، وهي إن الإثم واحد
يراد به الآثام، فوحد في اللفظ ومعناه الجمع، والذي يدل عليه ﴿ومنافع للناس﴾ فعودل الإثم بالمنافع، فلما عودل بها حسن أن يوصف بالكثير(١٢٥٦).
ولا يخفى أن هذه التعاليل ليست أكثر من وجوه للتفسير، ولا يستلزم انتصار إمام لقراءته تنكُّره لقراءة غيره بعد أن ثبت التواتر في كلٍ.
والآية تكشف عن حكمة التدرج في تشريع الأحكام، وسنأتي على تفصيل ذلك قريباً، فمع بداية الدعوة الإسلامية بقي الخمر على إباحته، حيث كان اهتمام الدعوة مركزاً على تثبيت دعائم الإيمان في النفوس.. من وحدانية وتصديق بالرسالة والرسول واليوم الآخر.
وبعد ذلك كان للأخلاق الدرجة الثانية من الاهتمام، فنزلت الآيات في فضيلة الصدق والصبر، والأمانة والوفاء، حتى إذا اكتمل مجتمع الإسلام، عقيدة وأخلاقاً، وتوضحت القيم، والمثل العليا في السلوك، بدأ تشريع الأحكام، وذلك مع أول العهد المدني.
تم ذلك كله والخمرة ما تزال على إباحتها، يتداولها الصحابة في مجالس أسمارهم من غير حرج ولا نكير، إلا شيئاً بدؤوا يجدونه في قلوبهم من الريبة في أمرها، دفعهم أن يستبينوا أمرها مرة بعد مرة.
والحكيم العليم سبحانه وتعالى أدرى بنفوس خلقه وطبائع عباده...


الصفحة التالية
Icon