فيتعين ثبوت الحكم في حق من يرى أن شرع من قبلنا شرع لنا ما لم يرد فيه ناسخ، وهم الحنابلة والحنفية، وذلك سواء قرؤوا بالرفع أو بالنصب، على التعليل الذي قدمناه.
ولا يتعين ثبوت الحكم في حق من قرأ بالنصب إذا كان لا يرى الأخذ بشرع من قبلنا، وهم الشافعية، الذين استدلوا بقول الله عز وجل: ﴿لكل جعلنا منكم شرعه ومنهاجاً﴾(١٣١٧).
ولكن كيف يتوجه عندهم تواتر قراءة الرفع، وهو تواتر ملزم كما علمت؟ الجواب أنهم يجعلونه عطفاً على المعنى كما قدمناه، فلا يلزمهم حينئذ حكم القصاص، ويكون فهمهم للآية مغايراً لما أوردناه عن ابن المنذر بقوله: هذا حكم في المسلمين، غاية الأمر أنهم جعلوا العطف هنا على المعنى، فاتصلت العبارات من جهة المعنى، وانفصلت من جهة الإتباع الإعرابي.
لكن هذه الحجة التي فصلناها لهم لم ترد في كتب الشافعية، فهي تخريج على أصولهم ولكن لم يجدوا الحاجة للاستدلال بها كونهم لم يخالفوا في مثلية القصاص في عموم قوله سبحانه: ﴿وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به﴾(١٣١٨) وقوله: ﴿فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم﴾(١٣١٩).
كذلك فإنهم لم ينازعوا فيما حكاه ابن المنذر، فيمكن القول حينئذ أن الكافة متفقون على دلالة الآية على مشروعية التماثل في القصاص فيما دون النفس(١٣٢٠) ولم ينازع في سائر دلالات الآية إلا أبا حنيفة في مسألة واحدة، وهو قياس محض، ذلك أنه قال: إن مقتضى التماثل أن يتحقق التماثل في الأرشين، فلا يقتص لامرأة من رجل، ولا لعبد من حر، لعدم التساوي في الإرث والأرش والبدلية(١٣٢١)، وهو قياس محض أعرض عنه جمهور الفقهاء لأنه قياس في مصادمة النص.
وثمرة الخلاف: أن الآية العظيمة نص في مشروعية القصاص في عقوبة الجناية على مادون النفس الإنسانية، وقد أتت الآية على تشريع ذلك وفق أسلوبين اثنين: