ويمكن التوفيق بين القراءتين على قول من قال: يقتلوكم أي يبدؤوكم بالقتل، وأجود الأقوال أن قراءة الجمهور جاءت بعد عزيمة سابقة، وهي المنع من مقاتلة المشركين في الحرم حتى يصيبوا واحداً منا، ثم جاءت الرخصة بمشروعية قتال المشركين في الحرم بمجرد مقاتلتهم إيّانا ولو لم يصيبوا منا أحداً.
وقد أورد القاضي ابن العربي توفيقاً لطيفاً بين القراءتين على هيئة حكاية وقعت له في بيت المقدس أنقلها لك عنه بنصها: قال القاضي أبو بكر بن العربي: وقد حضرت في بيت المقدس طهّره الله بمدرسة أبي عتبة الحنفي والقاضي الريحاني يلقي علينا الدرس في يوم جمعة، فبينما نحن كذلك إذ دخل علينا رجل بهي المنظر على ظهره أطماره، فسلم سلام العلماء، وتصدَّر في صدر المجلس بمدارع الرِّعاء فقال له الريحاني: من السيد؟ فقال له: رجل سلبه الشطّار أمس. وكان مقصدي هذا الحرم المقدّس، وأنا رجل من أهل صاغان من طلبة العلم، فقال القاضي مبادراً: سلوه، على العادة في إكرام العلماء بمبادرة سؤالهم، ووقعت القرعة على مسألة الكافر إذا التجأ إلى الحرم، هل يقتل أو لا؟ فأفتى بأنه لا يقتل، فسئل عن الدليل، فقال: قوله تعالى ﴿ولا تقاتلوهم عند المسجد الحرام حتى يقتلوكم فيه(١٣٣٣)﴾(١٣٣٤) قرىء: ولاتقتلوهم ولا تقاتلوهم، فإن قرىء ولا تقتلوهم فالمسألة نَصُّ، وإن قرىء ولا تقاتلوهم فهو تنبيه لأنه إذا نهى عن القتال الذي هو سبب القتل كانَ دليلاً بينّاً ظاهراً على النهي عن القتل.
فاعترض عليه القاضي الرِّيحاني منتصراً للشافعي ومالك وإن لم ير مذهبهما على العادة فقال: هذه الآية منسوخة بقوله تعالى:
﴿فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم﴾
فقال له الصاغاني: هذا لا يليق بمنصب القاضي وعلمه، فإن هذه الآية التي اعترضت بها علىَّ عامة في الأماكن، والآية التي احتججت بها خاصة ولا يجوز لأحد أن يقول إنَّ العام ينسخ الخاص، فأبهت(١٣٣٥) القاضي الريحاني وهذا من بديع الكلام(١٣٣٦).