وفي الخندق اعتصم النبي - ﷺ - في مدينته وخندق على نفسه، ولم يلق أذناً لاستفزاز قريش ولا لحماسة الشباب من أصحابه في عمل دفاعي صريح، استمر نحو أربعين يوماً، حتى رد الله الذين كفروا بغيظهم وكفى الله المؤمنين القتال، وكان الله قوياً عزيزاً.
ولعل ما يشكل في هذا الباب هو خروجه (إلى حنين والطائف لملاقاة ثقيف وهوازن، ولكن قراءة سريعة لهاتين الغزوتين تظهر أن ثقيف وهوازن كانت قد جمعت حشوداً هائلة بغرض غزو مكة وإخراج النبي - ﷺ -، حتى أصبح في وادي حنين ثلاثون ألفا من الحلفاء، كلهم مستعد للإغارة على مكة، فكان مقتضى الدفاع حينئذ أن يخرج إليهم النبي - ﷺ - بغارة الله فيصبحهم بعذاب وساء صباح المنذرين(١٤١٦).
وهكذا فإن استقراء فصول جهاد النبي - ﷺ - يكشف لك أنه لم يخرج في سائر غزواته(١٤١٧) إلا في هذا الإطار الدفاعي كما اصطلح عليه أهل الخبرة، وهذا يقوي ما ذهب إليه النووي في شرح صحيح مسلم من تحديد علة القتال في الإسلام بظهور الحرابة من العدو.
ثمرة الخلاف: أطلنا في هذه المسألة من نقل الأقوال والاختيارات من السلف والخلف في تحرير علة الجهاد ومناطه، ولا شك أن هذه النقول والاستدلالات قد كشفت لك عن كثير من ثمرات تعدد القراءة.
وأشير في هذا المجال أيضاً إلى أن ورود القراءة بالكسر والفتح ﴿يقاتِلون﴾ و﴿يقاتَلون﴾ أفادنا معنىً جديداً، وهو أن المقاتِل قد يكون مظلوماً أيضاً، كما هو الحال في (المقاتَل)، وهكذا فإنه ليس ثمة صورة واحدة لطبيعة الحرب في الإسلام، إذ الأمور بمقاصدها، وسواء كان الرجل مقاتِلاً أو مقاتَلاً، فإن تقرير كونه ظالماً أو مظلوماً، يحدد بدوافعه إلى القتال والظروف التي أحاطت به.