وقد تلمست معرفة سبب ذلك النقل ومصدره، فلم أجد في ذلك إشارة لسابق أو تبريراً للأحق، وتلمست له تأويلاً بجعل الواو هنا حالية لا عاطفة على معنى: ﴿فلا تهنوا وأنتم تدعون إلى السلم﴾ ولكن ذلك لا يستقيم مع الجزم في (وتدعوا) الذي هو قراءة سائر العلماء والقراء..!.
وبعد بحث استغرق وقتاً طويلاً فإني أقول في هذا المقام، تبارك الذي لم يكتب العصمة إلا لكتابه، وجل من لا يسهو ولا ينسى، وهذا أبو زرعة على جلالة علمه وعظيم تحصيله وقع في خطأ يتنزه عنه صغار الطلبة(١٤٦٧)، فيجب التنبيه إلى ذلك، والكامل الله، ولا حول ولا قوة إلا بالله.
الثاني: هل يلزم من هذه الآية النهي عن السلم مطلقاً بحيث تحرم المهادنة بين المسلمين والمشركين في كل حال، فتكون هذه الآية ناسخة لآية البقرة الداعية إلى الدخول في السلم كافة؟
أم هل تكون آية البقرة الداعية إلى الدخول في السلم ناسخة لهذه الآية في دلالتها على تحريم الدعوة إلى السلم؟
الجواب على ذلك وبالله التوفيق أن النسخ هنا غير متوجه، إذ لم تكتمل آلته وشروطه، فمن شرط النسخ معرفة المتقدم، وعدم إمكان الجمع بين النصين.
وها هنا فإن معرفة المتقدم والمتأخر من النصين غير متحققة بيقين، أما الجمع بين النصين فهو ممكن غير متعذر، وقد تكفل أستاذنا الزحيلي في التفسير المنير ببيانه حيث قال: لا تجوز الدعوة إلى السلم والمصالحة أو المهادنة تذللاً وإظهاراً للضعف ما دام المسلمون أقوياء، وإن حدثت الغلبة من الأعداء في الظاهر في بعض الأحوال، فإن الله ناصر المؤمنين، ولن ينقصهم شيئاً من أعمالهم.
فإذا عجز المسلمون لضعفهم عن مقاومة الأعداء جازت مهادنة الكفار عند الضرورة.
وكذلك إذا رأى الإمام مصلحة في المهادنة، فله أن يفعل ذلك، كما فعل النبي - ﷺ - في صلح الحديبية مع المشركين مدة عشر سنين.