ومن قرأ "تُنْسَها" مر أيضًا على تنسها أنت، إلا أن الفاعل في المعنى هنا يحتمل أمرين :
أحدهما : أن يكون الْمُنْسِي لها هو الله تعالى.
والآخر : أن يكون الْمُنْسِي لها ما يعتاد بني آدم من أعراض الدنيا غمًّا أو همًّا، أو عدواة من إنسان، أو وسوسة من شيطان.
فأما قوله عز اسمه :﴿سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنْسَى، إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ﴾١ فقد يمكن أن يكون ما يحدثه من النسيان أعراض الدنيا مما شاء الله زيادة في التكليف، وتعرضًا بمقاساته ومقاومته للثواب.
ويدل على جواز كون المنسي هو الله تعالى - وإن كانت التلاوة "أو تُنْسَها" - قوله تعالى :﴿وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفًا﴾٢، وقوله :﴿خُلِقَ الْإِنْسَانُ مِنْ عَجَلٍ﴾٣ مع قوله :﴿اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ، خَلَقَ الْإِنْسَانَ﴾٤، وقال :﴿خَلَقَ الْإِنْسَانَ، عَلَّمَهُ الْبَيَانَ﴾٥.
ويؤكد هذا قراءة ابن مسعود :"ما نُنْسِك من آية"، وفيه بيان، وقد يقول الإنسان : ضُرب زيد، وإن كان القائل لذلك هو الضارب، وهذا يدل على أن الغرض هنا : أن يُعلم أنه مضروب، وليس الغرض أن يعلم مَن ضربه؛ ولذلك بُني هذا الفعل للمفعول، وأُلغي معه حديث الفاعل؛ فقام في ذلك مقامه ورُفع رفعه، فهذه طريق ما لم يُسم فاعله.
ومن ذلك قراءة ابن عباس فيما رواه سليمان بن أرقم٦ عن أبي يزيد المدني عن ابن عباس :"فَأَمْتِعْهُ قَلِيلًا ثُمَّ اضْطَّرَّهُ"٧، على الدعاء من إبراهيم صلى الله عليه وسلم.
قال أبو الفتح : أما على قراءة الجماعة :﴿فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلًا ثُمَّ أَضْطَرُّهُ﴾ فإن الفاعل في "قال" هو اسم الله تعالى؛ أي : لما قال إبراهيم :﴿رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَدًا آمِنًا وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ﴾ قال الله :﴿وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلًا ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلَى عَذَابِ النَّارِ﴾.
وأما على قراءة ابن عباس :"فَأَمْتِعْهُ قَلِيلًا ثُمَّ اضْطَّرَّهُ إِلَى عَذَابِ النَّارِ" فيحتمل أمرين :

١ سورة الأعلى : ٦.
٢ سورة النساء : ٢٨.
٣ سورة الأنبياء : ٣٧.
٤ سورة العلق : ١.
٥ سورة الرحمن : ٣.
٦ هو سليمان بن أرقم أبو معاذ البصري مولى الأنصار، وقيل : مولى قريش، روى قراءة الحسن البصري عنه، وروى الحروف عنه علي بن حمزة الكسائي. طبقات القراء لابن الجزري : ١/ ٣١٢.
٧ سورة البقرة : ١٢٦.


الصفحة التالية
Icon