وسبب توكيد هذه المواضع "بمثل" أنه يراد أن يُجعل من جماعة هذه أوصافهم تثبيتًا للأمر وتمكينًا له، ولو كان فيه وحده لقلق منه موضعه، ولم تَرْسُ فيه قدمه، ولم يؤمن عليه انتقاله إلى ضده.
ومثل ذلك أيضًا قولهم في مدح الإنسان : أنت من القوم الكرام، ومنْزِعُك إلى السادة؛ أي : لك في هذا الفعل سابقة وأول، فأنت مقيم عليه ومحقوق به، ولست "٢٤و" دخيلًا فيه عن غير أول ولا أصل، فيخشى عليك نُبوك عنه.
ولما أريد مثل هذا في الثناء على الله - تعالى - ولم يجز أن يكون تابعًا لسلف، ولا موجودًا له فيه نظير؛ عدلوا به إلى وجه ثالث غير الاثنين المذكورين؛ وهو أن جُعل قديمًا فيه، راسخًا عليه، فكان أثبت له من أن يكون - عز وجهه - مبتدئه أو مرتجله، وذلك قوله تعالى :﴿وَكَانَ اللَّهُ سَمِيعًا بَصِيرًا﴾١، ﴿وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا﴾٢ ونحو ذلك من الآى، فاعرف ذلك أولًا ومبتكرًا. فكذلك قوله عز وجل :﴿فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ مَا آمَنْتُمْ بِهِ﴾ أي : كانوا ممن يؤمن بالحق هذا الجنس على سَعته وانتشار جهاته فقد اهتدوا.
ورحم الله ابن عباس! فإن هذا القول وإن كان اعتراضًا عليه، فعنه أيضًا أُخذ وإليه رُد، وغير ملوم مَن نصر الجماعة، وبالله الحول والاستطاعة.
ومن ذلك قراءة الزهري :"لرَوُوف"٣ بلا همز، ويُثقِّل.
قال أبو الفتح : ينبغي أن تكون الهمزة فيه مخففة، فلما أخفاها التخفيف ظُنت واوًا للطف هذا الموضع أن تضبطه القراء؛ وذلك أنا لا نعرف في غير هذه اللفظة إلا الهمز، يقال : رؤُف به، ورأَف به، ورئِف، ولم نسمع فيه راف٤ ولا رُفْتُ، والهمزة إذا خففت في نحو هذا لم تبدل، وإنما تُخْفَى، كقولك في سئول فعول من سألت : سَوُول، فاعرف ذلك.
ومن ذلك قراءة زيد بن علي عليه السلام :"أَلَا الَّذِينَ ظَلَمُوا"٥ بفتح الهمزة خفيفة اللام، تنبيه.
٢ سورة النساء : ٩٦.
٣ سورة البقرة : ١٤٣.
٤ في القاموس :"رأف الله تعالى بك مثلثة وراف".
٥ سورة البقرة : ١٥٠.