فأين هذا من قوله :
هذا الذي تَعْرِف البطحاء وطأته والبيت يعرفه والحل والحرم؟١
ولهذا قال :
من حديث نَمَى إليَّ فما أطـ ـعَمُ غُمْضًا ولا ألذ شرابي٢
فنكَّر الغمض احتقارًا له إذ كان لا يعرفه، وعرَّف الشراب إذ كان لا بد أن يشرب وإن قل. قال :
على كل حال يأكل المرء زادَه من الضر والبأساء والحدَثان
ولأجل ذلك لم تندب العرب المبهم ولا النكرة لاحتقارها، وإنما تندب بأشهر أسماء المندوب؛ ليكون ذلك عذرًا لها في اختلاطها وتفجعها، ويؤكده أيضًا قوله تعالى :﴿مِنْهُمْ مَنْ قَصَصْنَا عَلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ﴾٣، فجرى قوله سبحانه :"وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ رُسُلُ" مجرى قولك لصاحبك : اخدم كما خَدَمَنَا غيرُك من قبلك ولا تبعة عليك بعد ذلك، فهذا إذن موضع إسماح له، فلا بد إذن من إلانة ذكره، وعليه جاء قوله تعالى :﴿أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ﴾٤ فأضاف "٣٨ظ" سبحانه من عذرهم، وأعلَمَ ألا متعلق عليه بشيء من أمرهم، فلهذا حسن تنكير "رسل" هاهنا، والله أعلم.
وأما من قرأ :﴿قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ﴾ فوجه تعريفهم ومعناه : أنكم قد عرفتم حال مَن قبله من الرسل في أنهم لم يطالبوا بأفعال مَن خالفهم، وكذلك هو صلى الله عليه وسلم، فلما كان موضع تنبيه لهم كان الأليق به أو يومئ إلى أمر معروف عندهم.
ومن ذلك قراءة الأعمش، فيما رواه القطعي٥ عن أبي زيد عن المفضَّل عن الأعمش :"ومَن
٢ يروى :
من حديث نمى إليَّ فما ير قأ دمعي وما أسيغ شرابي
وهو لعلفاء بن الحارث. معجم الشعراء : ٤٢٣.
٣ سورة غافر : ٧٨.
٤ سورة آل عمران : ٤٤.
٥ هو محمد بن يحيى بن مهران أبو عبد الله القطعي البصري، إمام مقرئ، مؤلف متصدر، أخذ القراءة عرضًا عن أيوب بن المتوكل وهو أكبر أصحابه، وروى الحروف سماعًا عن أبي زيد الأنصاري وغيره، وروى القراءة عنه أحمد بن علي الخزاز وغيره. طبقات القراء : ٢/ ٢٧٨.