ومن ذلك قراءة ابن عباس :"وأَكيلُ السَّبُع"١.
قال أبو الفتح : ذهب بالتذكير إلى الجنس والعموم، حتى كأنه قال : وما أكل السبع، ولو قال ذلك لما كان لفظ "ما" إلا إلى التذكير، والأَكيل هنا إذن يصلح للمذكر والمؤنث، وأما الأَكيلة فكالنطيحة والذبيحة، اسم للمأكول والمنطوح كالضحية والبلية في قوله :
مثل البليَّة قالصا أهدامُها٢
فنقول على هذا : مررت بشاة أكيل؛ أي : قد أكلها السبع ونحوه، وتقول : ما لنا طعام إلا الأَكلية؛ أي : الشاة أو الجزور المعدة لأن تؤكل، فإن كانت قد أُكلت فهي أَكيل بلا هاء، وكذلك أَكيل السبع هنا ما قد أَكل السبع بعضه.
ومن ذلك قراءة يحيى وإبراهيم :"غَيْرَ مُتَجَنِّفٍ لإِثْمٍ"٣ بغير ألف.
قال أبو الفتح : كأن متجنفًا أبلغ وأقوى معنى من متجانف؛ وذلك لتشديد العين، وموضوعها لقوة المعنى بها نحو تَصوَّن هو أبلغ من تصاون؛ لأن تصون أوغل في ذلك، فصح له وعرف به، وأما تصاون فكأنه أظهر من ذلك وقد يكون عليه، وكثيرًا ما لا يكون عليه، ألا ترى إلى قوله :
إذا تخازرتُ وما بي من خَزر٤
فصار متجنِّف بمعنى مُتَمَيِّل ومتَثنٍّ، ومتجانف كمتمايل، ومتأَوِّد أبلغ من متاوِد، وعليه قراءة عبد الله بن أبي إسحاق والأشهب العُقيلي :"يُرَءُّون الناس"؛ أي : يُكرهونَهم على أن يروهم على ما يتجمَّلون به، ويراءُون يتصنعون لذلك فربما تم لهم، وقد ذكرنا ذلك فيما مضى من كتابنا هذا.
٢ صدره :
تأْوي إلى الأَطناب كلُّ رذية
والبيت للبيد من معلقته. الأطناب : حبال البيت، جمع طنب، الرذية : الضعيفة من كل شيء، والمراد بها البائسة الفقيرة، والبلية : الناقة التي تشد على قبر صاحبها حتى تموت، قالص : قصير، الأهدام : جمع هدم بالكسر؛ وهو الثوب البالي. الديوان : ١٣٩، وشرح المعلقات السبع للزوزني : ١١٤.
٣ قراءة الجماعة :﴿غَيْرَ مُتَجَانِفٍ﴾. سورة المائدة : ٣.
٤ انظر : الكتاب : ٢/ ٢٣٩، واللسان "خزر". تخازر : ضيق جفنه ليحدد النظر.