الذي يختار معه النصب والضمير ملفوظ به موجود معك، فتكاد الحال تختلف على فساد الرفع، وبإزاء هذا أنه لو نصب فقال :"كلَّه لم أصنع" لما كَسَر وزنًا، فهذا يؤنسك بالرفع في القراءة.
وإن شئت لم تجعل قوله "يبغون" خبرًا؛ بل تجعله صفة خبر موصوف محذوف، فكأنه قال : أفحكمُ الجاهلية حكمٌ يبغونه، ثم حذف الموصوف الذي هو حكم، وأقام الجملة التي هي صفته مقامه؛ أعني : يبغون، كما قال الله سبحانه :﴿مِنَ الَّذِينَ هَادُوا يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ﴾١ أي : قوم يحرفون، فحُذف الموصوف وأُقيمت الصفة مقامه، وعليه قوله :
وما الدهر إلا تارتان فمنهما أموت وأخرى أبتغي العيش أكدح٢
أي : فمنهما تارة أموت فيها، فحذف تارة وأقام الجملة التي هي صفتها نائبة عنها فصار أموت فيها، ثم حذف حرف الجر فصار التقدير أموتها، ثم حذف الضمير فصار أموت. ومثله في الحذف من هذا الضرب؛ بل هو أطول منه :
تروَّحي يا خيرَةَ الفَسيلِ تروَّحي أجدرَ أن تقيلي٣
أصله : ائتي مكانًا أجدر بأن تقيلي فيه، فحذف الفعل الذي هو "ائتي" لدلالة تروحي عليه، فصار مكانًا أجدر بأن تقيلي فيه، ثم حذف الموصوف الذي هو مكانًا فصار تقديره أجدر بأن تقيلي فيه، ثم حذف الباء أيضًا تخفيفًا فصار أجدر أن تقيلي فيه، ثم حذف حرف الجر فصار أجدر أن تقيليه، ثم حذف العائد المنصوب فصار أجدر أن تقيلي. ففيه إذن خمسة أعمال؛ وهي : حذف الفعل الناصب، ثم حذف الموصوف، ثم حذف الباء، ثم حذف "في"، ثم حذف الهاء، فتلك خمسة أعمال.
وهناك وجه سادس؛ وهو أن أصله : ائتي مكانًا أجدر بأن تقيلي فيه من غيره، كما تقول : مررت برجل أحسن من فلان، وأنت أكرمُ عليَّ من غيرك. فإذا جاز في الكلام توالي هذه الحذوف ولم يكن معيبًا ولا مَشِينًا ولا مُستكرَهًا كان حذف الهاء من قوله تعالى :"أَفَحُكْمُ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ"، والمراد به حكمٌ يبغونه، ثم حذف الموصوف وعائده أسوغ وأسهل وأسير. وأما قوله :

١ سورة النساء : ٤٦.
٢ لابن مقبل، وانظر : الديوان : ٢٤، والكتاب : ١/ ٣٧٦، واللسان "كدح".
٣ لأُحَيْحَة بن الجلاح، ويجعل بعضهم الخطاب للفسيل؛ وهو صغار النخل، ويقول : إن تروحي من تروح النبت إذا طال، وكنى بالقيلولة عن النمو والزهو، ويجعل كثير الخطاب للناقة، ويقول : إن التروح هو الرواح وقت العشي، وشبه الناقة بالفسيل في العراقة والكرم.
والمعنى : بكري بالرواح وجدي في السير تبلغي مكانًا أجدر أن تقيلي فيه غدًا.
وانظر : شرح شواهد العيني بهامش الخزانة : ٤/ ٣٦، والتصريح : ٢/ ١٠٣، وشرح شواهد الكشاف الملحق به : ٩٨.


الصفحة التالية
Icon