"أَفَحَكَمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ" فيمن قرأه كذلك، فأمره ظاهر في إعرابه، غير أن "حَكَمًا" هنا ليس مقصودًا به قصد حاكم بعينه؛ وإنما هو بمعنى الشِّياع والجنس؛ أي : أفحكامَ الجاهلية يبغون؟ وجاز للمضاف أن يقع جنسًا كما جاء عنهم في الحديث من قولهم : منعت العراق قَفِيزها١ ودرهمها، ومنعت مصر إردبها، وله نظائر.
ثم يرجع المعنى من بعد إلى أن معناه معنى :"أَفَحُكْمُ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ"؛ لأنه ليس المراد والْمَبْغيّ هنا نفس "٥٠و" الحكام، فإنما المبغي نفس الحُكْم، فهو إذن على حذف المضاف؛ أي : أفحُكمَ حَكَمِ الجاهلية يبغون؟ وهذا هو الأول في المعنى، فاعرف ذلك.
ومن ذلك قراءة يحيى وإبراهيم :"فَيرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ"٢ بالياء.
قال أبو الفتح : فاعل يرى مضمر دلت عليه الحال؛ أي : فيرى رائيهم ومتأمِّلُهم، والذين في موضع نصب كقراءة الجماعة، وقد كثر إضمار الفاعل لدلالة الكلام عليه، كقولهم : إذا كان غدًا فائتني؛ أي : إذا كان ما نحن عليه من البلاء في غد فائتني، وهو كثير، ودل عليه أيضًا القراءة العامة؛ أي : فترى أنت يا محمد - أو يا حاضر - الحال الذين في قلوبهم مرض يسارعون في ولاء المشركين ونصرهم.
ومن ذلك قراءة الحسن وابن هُرْمُز وابن عمران ونُبيج وابن بريدة :"مَثْوبة"٣ ساكنة الثاء.
قال أبو الفتح : هذا مما خرج على أصله، شاذًّا عن بابه وحال نظائره، ومثله مما يحكى عنهم من قولهم : الفُكاهة مَقْوَدةٌ إلى الأذى، وقياسهما مَثابة ومَقادة، كما جاء عنهم من منامة وهي القطيفة، ومزادة، ومثله مزْيد، وقياسه مزاد، إلا أن مَزْيَدًا عَلَم، والأعلام قد يحتمل فيها ما يكره في الأجناس، نحو : مَحبب ومَكوزة ومريم ومدين ومعد يكرب ورجاء بن حيوة، ومنه : موظب ومورق اسم رجلين، ومَثْوَبة مَفْعَلةٌ ومَثُوبة مَفْعُلة، ونظيرها الْمَبْطَخة والْمَبْطُخة والمشرَفة والمشرُفة، وأصل مَثُوبَة مَثْوُبَة، فنقلت الضمة من الواو إلى الثاء، ومثلها معونة. وأما مئونة
٢ سورة المائدة : ٥٢.
٣ سورة المائدة : ٦٠، وانظر في هذا : المنصف : ١/ ٢٧٥ وما بعدها، و٢٩٥ وما بعدها.