والثالث : أن تكون "صاحبة" اسم "كان"، وجاز التذكير هنا للفصل بين الفاعل والفعل بالظرف الذي هو الخبر؛ كقولنا : كان في الدار هند.
ومثل ما حكاه صاحب الكتاب من قولهم : حضر القاضيَ اليوم امرأةٌ.
وأنا أرى أن تذكير "كان" مع تأنيث اسمها أسهل من تذكير الأفعال سواها وسوى أخواتها مع فاعليها.
وكان في الدار هند أسوغ من قام في الداره هند؛ وذلك أنه إنما احتيج إلى تأنيث الفعل عند تأنيث فاعله؛ لأن الفعل انطبع "٥٣و" بالفاعل حتى اكتسى لفظه من تأنيثه، فقيل : قامت هند وانطلقت جُمْل، من حيث كان الفعل والفاعل يجريان مجرى الجزء الواحد، وإنما كان ذلك كذلك لأن كل واحد منهما لا يستغني عن صاحبه، فأنث الفعل إيذانًا بأن الفاعل الموقع بعده مؤنث، وليس كذلك حديث كان وأخواتها؛ لأنه ليست "كان" مع اسمها كالجزء الواحد، من قِبَل أنك لو حذفت "كان" لاستقل ما بعدها برأسه، فقلت في قولك : كان أخوك جالسًا : أخوك جالس، فلما أن قام ما بعدها برأسه، ولم يحتج إليها؛ لم يتصل به اتصال الفاعل بفعله، نحو : قام جفعر وجلس بِشر.
ألا تراك لو حذفت الفعل هنا لانفرد الفاعل جزءًا برأسه، فلم يستقل بنفسه استقلال الجملة بعد "كان" بنفسها؟ فلما لم تَقْوَ حاجته إلى "كان" قوة حاجة الفاعل إلى الفعل انحطت رتبته في حاجته إلى "كان"، فامتاز منها امتيازًا قد أحطنا به، فساغ لذلك ألا يلزم تأنيث "كان" لاسمها إذا كان مونثًا تأنيث الفعل لفاعله إذا كان مؤنثًا، ولم يذكر أحد من أصحابنا هذا، فافهمه؛ فإن هذه حاله.
ومن ذلك قراءة ابن عباس بخلاف وقتادة، ورُويت عن الحسن :"دُرِسَتْ"١، ابن مسعود وأُبي :"دَرَسَ". ابن مسعود أيضًا :"دَرسْن".

١ سورة الأنعام : ١٠٥. وفي البحر المحيط ٤/ ١٩٧ : وقرأ ابن عامر وجماعة من غير السبعة :"دُرست" مبنيًّا للمفعول مضمرًا فيه؛ أي : درست الآيات؛ أي : ترددت على أسماعهم حتى بليت وقدمت في نفوسهم وأمحيت. وقرأ باقي السبعة :"دَرَسْتَ" يا محمد في الكتب القديمة.


الصفحة التالية
Icon