كما أن قراءة مَن قرأ :"أَعْلَمُ مَنْ يَضِلُّ عَنْ سَبِيلِهِ" : مَنْ يجور عنه، ألا ترى إلى قوله قبل ذلك :﴿وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ﴾ فلا محالة "٥٤و" أنه - سبحانه - أراد بمن يضل عن سبيله، فحذف الباء وأوصل "أعلم" هذه بنفسها، أو أضمر فعلًا واصلًا تدل هذه الظاهرة عليه، حتى كأنه قال : يعلم، أو علم مَن يُضِلُّ عن سبيله. يؤكد ذلك ظهور الباء بعده معه في قوله :﴿وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ﴾، وقوله بعده :﴿إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِالْمُعْتَدِينَ﴾.
وقد يجوز أن تكون "مَنْ" هذه مرفوعة بالابتداء، و"يُضل" بعدها خبر عنها، و"أعلم" هذه معلقة عن الجملة، حتى كأنه قال : إن ربك هو أعلم أيُّهم يُضِلُّ عن سبيله، كقوله تعالى :﴿لِنَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ أَحْصَى لِمَا لَبِثُوا أَمَدًا﴾١.
فأما الجر فمدفوع من حيث ذكرنا، وإذا كان ذلك كذلك علمت أن "مَن" في قول الطائي :
غدوتُ بهم أَمَدَّ ذَوِيَّ ظِلًّا وأكثَرَ مَنْ ورَائِي ماءَ وادِي٢
لا يجوز أن تكون "مَنْ" في موضع جر بإضافة أكثر إليه؛ إذ ليس واحدًا ممن وراءه، فهو إذن منصوب الموضع لا محالة بأكثر أو بما دل عليه أكثر؛ أي كَثَرتُهم : كنتُ أكثرَهم ماء واد.
ولا يجوز فيه الرفع الذي جاز مع العلم؛ لأن كثرت ليس من الأفعال التي يجوز تعليقها؛ إنما تلك ما كان من الأفعال داخلًا على المبتدأ وخبره، وأظنني قد ذكرت نحو هذا في صدر هذا الكتاب.
ومن ذلك قراءة أبي عبد الرحمن السلمي :"وَكَذَلِكَ زُيِّنَ لِكَثِيرٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ قَتْلُ أَوْلادِهِمْ شُرَكَاؤُهُمْ"٣.
قال أبو الفتح : يحتمل رفع شركاء تأويلين :
أحدهما : وهو الوجه؛ أن يكون مرفوعًا بفعل مضمر دل عليه قوله :"زُين"؛ كأنه لما قال : زُين لكثير من المشركين قتلُ أولادهم، قيل : مَن زينه لهم؟ فقيل : زينه لهم شركاؤهم، فارتفع الشركاء بفعل مضمر دل عليه "زُين"، فهو إذن كقولك : أُكل اللحمُ زيدٌ، ورُكِبَ

١ سورة الكهف : ١٢.
٢ من قصيدة لأبي تمام في مدح أحمد بن أبي داود والاعتذار إليه، وضمير "بهم" لإياد في بيت سابق. انظر : الديوان بشرح التبريزي : ١/ ٣٧٥.
٣ سورة الأنعام : ١٢٣، وقرأ الجمهور ﴿زَيَّنَ﴾ مبنيًّا للفاعل، ونصب ﴿قَتْلَ﴾ مضافًا إلى ﴿أَوْلادِهِمْ﴾ ورفع ﴿شُرَكَاؤُهُمْ﴾ فاعلًا بزين. البحر : ٤/ ٢٢٩.


الصفحة التالية
Icon