قال الأعمش : وإن لحن عاصم تلحن أنت؟! وقد رُوي هذا الحرف أيضًا عن أبان١ بن تغلب أنه قرأ كذلك.
قال أبو الفتح : لسنا ندفع أنَّ جعل اسم كان نكرة وخبرها معرفة قبيح، فإنما جاءت منه أبيات شاذة، وهو في ضرورة الشعر أعذر، والوجه اختيار الأفصح الأَعرب، ولكن من وراء ذلك ما أذكره.
اعلم أن نكرة الجنس تفيد مفاد معرفته، ألا ترى أنك تقول : خرجت فإذا أسد بالباب، فتجد معناه معنى قولك : خرجت فإذا الأسد بالباب، لا فرق بينهما؟ وذلك أنك في الموضعين لا تريد أسدًا واحدًا معينًا، وإنما تريد : خرجت فإذا بالباب واحد من هذا الجنس، وإذا كان كذلك جاز هنا الرفع في ﴿مُكَاءً وَتَصْدِيَةً﴾ جوازًا قريبًا، حتى كأنه قال : وما كان صلاتَهم عند البيت إلا المكاءُ والتصديةُ؛ أي : إلا هذا الجنس من الفعل، وإذا كان كذلك لم يجرِ هذا مجرى قولك : كان قائم أخاك، وكان جالس أباك؛ لأنه ليس في جالس وقائم من معنى الجنسية التي تلاقى معنيا "٦٧ظ" نكرتها ومعرفتها على ما ذكرنا وقدمنا.
وأيضًا فإنه يجوز مع النفي من جعل اسم كان وأخواتها نكرة ما لا يجوز مع الإيجاب، ألا تراك تقول : ما كان إنسان خيرًا منك، ولا تجيز : كان إنسان خيرًا منك؟ فكذلك هذه القراءة أيضًا، لَمَّا دخلها النفي قَوِي وحسن جعل اسم كان نكرة، هذا إلى ما ذكرناه من متشابهة نكرة اسم الجنس لمعرفته؛ ولهذا ذهب بعضهم في قول حسان :
كأَنَّ سبيئة من بيت رأس يكون مزاجَها عسل وماءُ٢
إنه إنما جاز ذلك من حيث كان عسل وماء هما جنسين، فكأنه قال : يكون مزاجَها العسل والماء، فبهذا تسهل هذه القراءة، ولا يكون من القبح واللحن الذي ذهب إليه الأعمش على ما ظن.
٢ السبيئة : الخمر، ويروى مكانها "سلافة" وهي الخمر أيضًا، ويقال : هو اسم لما سال منها قبل أن تعصر، وذلك أخلصها، وبيت رأس : اسم موضع، وقيل رأس : رئيس الخمارين، وقيل رأس : اسم خمار معروف. الكتاب : ١/ ٢٣.