ومن ذلك قراءة مجاهد وأبي روق :"يَوْمَئِذٍ يُوَفِّيهِمُ اللَّهُ دِينَهُمُ الْحَقُّ"١ رفعا.
قال أبو الفتح :"الحق" هنا وصف الله "سبحانه"، أي : يومئذ يوفيهم الله الحق دينهم وجاز وصفه "تعالى" بالحق لما في ذلك من المبالغة، حتى كأنه يجعله هو هو على المبالغة، فهو كقولنا٢ : رجل خَصْم، وقوم زَوْر، وقوله :
فَهُمْ رِضا وَهُمْ عَدْل٣
وعليه قوله "تعالى" :"إِلَى اللَّهِ مَوْلاهُمُ الْحَقِّ"٤.
ومن ذلك قول ابن عباس : أخطأ الكاتب، إنما هي "تستأْذنوا"، يعني قوله :"تستأْنسوا"٥

١ سورة النور : ٢٥.
٢ في ك : كقولك.
٣ من قول : زهير في مدح هرم بن سنان، والحارث بن عوف :
متى يشتجر قوم يقل سرواتهم هم بيننا فهم رضا وهم عدل
ويشتجر : يختصم. وسرواتهم : أشرافهم، جمع سراة، مفرد سراة سرى. وهم بيننا : هم الحاكمون بيننا، كما تقول : الله بيني وبينك. الديوان : ١٠٧، واللسان "رضا".
٤ سورة الأنعام : ٦٢.
٥ سورة النور : ٢٧، ولسنا نعرف سببا معقولا يحمل ابن عباس على أن يقول هذا الذي يعزى إليه عن قراءة "تستأنسوا". فالاستئناس لا يناقض الاستئذان، ولكنه يفضي إليه. قال الزمخشري في الكشاف يفسره، ويذكر صلته بالاستئذان :
فيه وجهان : أحدهما أنه من الاستنئاس الظاهر الذي هو خلاف الاستيحاش، لأن الذي يطرق باب غيره لا يدري أيؤذن له أم لا؟ فهو كالمستوحش من خفاء الحال عليه، فإذا أذن له استأنس، فالمعنى حتى يؤذن لكم.. وهذا من باب الكناية والإرداف، لأن هذا النوع من الاستئناس يردف الإذن، فوضع موضع الإذن.
والثاني : أن يكون من الاستئناس الذي هو الاستعلام والاستكشاف، استفعال من أنس الشيء : إذا أبصره ظاهرا مكشوفا. والمعنى : حتى تستعلموا وتستكشفوا الحال..
ونعتقد أنه لو وقع حقا هذا الخطأ ما قنع ابن عباس في تداركه بذكره والتنبيه عليه، يأبي عليه دينه وحكمته وإخلاصه لربه إلا أن يحق الحق فيه ويحمل الناس عليه. فهو بلا ريب يعلم أن الاكتفاء بمجرد القول في أمره حقيق أن يفتح باب الشك في سلامة نص القرآن الكريم.
ولا ندري بعد ذلك كله كيف عزب عن أئمة القراء علم هذا الخطأ، وهم المنقطعون لتلقي القرآن عن صاحب الرسالة وتعليمه للناس طبقة بعد طبقة، ولا كيف سكتوا عنه إذا كانوا قد علموه، بل كيف تداعوا إلى القراءة به حتى بلغ حد التواتر، وتركوا القراءة بما هو الصواب فلم يقرأ به إلا قليل؟ =


الصفحة التالية
Icon