وكذلك يروى عن بعد الله، وروي عن أُبَيّ :"حَتَّى تُسَلِّمُوا أو تَسْتَأْذِنُوا"، وكذلك قرأ ابن عباس.
قال أبو الفتح :"تَسْتَأْنِسُوا" هنا معناه تطلبوا وتلتمسوا الأنس، كما أن "تستأذنوا" إنما معناه تطلبوا الإذن. فأما قولهم : قد استأنست بفلان فليس من هذا، إنما ذاك معناه أنست به، وليس المراد فيه طلبت الأنس منه. وأنس في هذا واستأنس كسخر واستسخر، وهزئ واستهزأ، وعجب واستعجب، وقر واستقر، وعلا واستعلى. قال أوس بن حجر :
وَمُسْتَعْجِب مِمّا يَرَى منْ أناتِنَا ولَو زَبَنَتْهُ الحربُ لَمْ يَتَرَمْرَمِ١
ومن ذلك قراءة ابن عباس وسعيد بن جبير :"مِنْ بَعْدِ إِكْرَاهِهِنَّ لَهنّ غَفُورٌ رَحِيمٌ"٢.
قال أبو الفتح : اللام في "لهن" متعلقة بـ"غفور"؛ لأنها أدنى إليها، ولأن فعولا أقعد في التعدي من فعيل، فكأنه قال : فإن الله من بعد إكراههن غفور لهن. ويجوز أن تكون أيضا متعلقة بـ"رحيم"؛ وذلك أن ما لا يتعدى قد يتعدى بحرف الجر، ألا تراك تقول : هذا مارٌّ بزيد أمس، فتعمل اسم الفاعل وهو لما مضى؛ لأن هناك حرف الجر، وإن كنت لا تعديه فتنصب به وهو لما مضى؟ فكذلك يجوز تعلق اللام في "لهن" بنفس "رحيم"، وإن كنت لا تجيز : هذا رحيم زيدا، على مذهب الجماعة غير سيبويه ولأجل اللام في "لهن".
فإن قلت : فإذا كانت اللام في "لهن" متعلقة بـ"رحيم" وإنما يجوز أن [١١٢و] يقع المعمول بحيث يجوز وقوع العامل أَفَتُقَدِّمُ "رحيما" على "غفور" وهو تابع له؟
قيل : اتباعه إياه لفظا لا يمنع من جواز تقديم رحيم على غفور؛ وذلك أنهما جميعا خبران لـ "إنّ"، وجاز تقدم أحد الخبرين على صاحبه؛ فتقول : هذا حلو حامض، ويجوز : هذا حامض حلو. فلك إذًا أن تقول : فإن الله من بعد إكراههن غفور رحيم، وإن شئت رحيم غفور.
ويرى أبو حيان في البحر "٦ : ٤٤٥" أن من روى هذا عن ابن عباس فهو طاعن في الإسلام ملحد في الدين، وابن عباس بريء من هذا القول.
١ لم يترمرم : لم يحرك فاه للكلام. وانظر الصحاح؛ واللسان "رمم".
٢ سورة النور : ٣٣.