بين مثاليهما أنفسهما، فقالوا : غُلُوًّا، وغَلَاء على ما مضى. وكذلك قولهم في نظائر هذا : وجَدت الشيء وجُودا، ووجَدت في الحزن وَجْدًا، ووجَدت من الغنى وُجْدًا ووَجْدًا ووِجْدًا وجِدَة، ووجدت على الرَّجل مَوْجِدة، وجدت الضَالَة وِجدَانا، فجعلوا اختلاف المصادر فيها عوضًا مما كان يقتضيه أصل وضع اللغة من اختلافها أنفسها، فهذا مَقَاد يُقْتَاس ويُرْجَع في نظائره إليه.
نعم، وخصوا غَلَا في القول بالغُلُوّ؛ [١١٩ظ] لأن لفظ فُعُول أقوى من لفظ فَعَال؛ للواوين والضمتين، وضعفِ الألف والفتحتين. وذلك أن الغُلُوّ في القول أعلى وأعنى عندهم من غلاء السعر، ألا ترى إلى قول الله تعالى :﴿تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدًّا، أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ وَلَدًا﴾١، وقال تعالى :﴿يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ﴾٢؟ وأما غلاء٣ السعر فلا يدخل النار، ولا يحرم الجنة، ثم إنهم قالوا : غلتِ القِدْرُ تَغْلِي غَلَيَانا، فلما صغر هذا المعنى في أنفسهم أخذوه من الياء؛ لأنها تنحط عن الواو والضمة إلى الياء والكسرة٤.
فإن قلت : فقد قالوا : عَلَوْتُ في المكان أَعْلُوا عُلُوًّا وعلِيتُ في الشرف٥ علاءً؛ فجعلوا الشرف دون ارتفاع النِّصْبَة٦.
قيل : لم يَجْفُ الشرفُ عندهم، ولا تَبشَّع تبشّع الكفر والغلوّ في القول المعاقَب عليه، والمنهيَّ عنه؛ فلان جانبُه، ونَعُمَ وعَذُبَ في أنفسهم؛ فبنوه على فَعِل لتنقلب الواو ياءً، ومصدره على الفَعَال؛ لعذوبته بالفتحتين والألف. وهذه أماكن إن رَفَقْت بها، وسانَيْتَهَا٧، وتأنَّيْتَهَا٨، ولم تَبْءَ٩ عليها وتَخْتَبطَها - أَوْلَئْكَ جانبها، وأركبتك ذِرْوَتها، وقبلَتْكَ لها ضيفا، وَبَسَطَتْكَ يدًا وسيفًا. وإن أَخْلَدْتَ بها إلى ضِدّ هذا أخْلَدَتْ بكَ إلى ضده، فَتَلَاقيا ورفقا، لا مُغَالَاةً ولا خُرْقًا.
٢ سورة النساء : ١٧١.
٣ في ك : غلا، وهو تحريف.
٤ أي في المضارع "تغلي".
٥ في ك : في الشرف أعلو، وهي زيادة غير صحيحة، فمضارع على : يعلى.
٦ النصبة : هيئة النصب، أي الرفع والإقامة.
٧ ساناه : راضاه، وداناه.
٨ تأنيتها : رفقت بها.
٩ لم تبء : لم تتفاخر ولم تتسام، وماضيه بأى، كسعى.