كأنَّ رِماحَهُم أشْطانُ بِئْرٍ بَعِيد بينَ جَالَيها جَرُور١
أي : بعيد مدى جاليها، أو مسافة جاليها. ويؤكد كون "بينَ" هنا اسمًا لا ظرفًا أن بَعَّدَ وبَاعَدَ فعلان متعديان، فمفعولهما معهما، وليس "بين" ههنا مثلها في قولك : جلست بين القوم؛ لأن معناه جلست في ذلك [١٣٠و] الموضع وليس يريد هنا بَعِّد أو بَاعِد فيما بين أسفارنا شيئا.
قال أبو حاتم : وزعموا أن العمارة اتصلت ببلادهم، فأرادوا أن يسيروا على رواحلهم٢ في الفيافي، فدعوا على أنفسهم، فهو قوله سبحانه :﴿وَظَلَمُوا أَنْفُسَهُم﴾٣.
وكان شيخنا أبو علي يذهب إلى أن أصل "بين" أنها مصدر بان يبين وبينا، ثم استعملت ظرفا اتساعا وتجوزا، كمقدم الحاج، وخلافة فلان. قال. ثم استعملت واصلة بين الشيئين، وإن كانت في الأصل فاصلة. وذلك لأن جهتيها وَصَلَتَا ما يجاورهما بها، فصارت واصلة بين الشيئين. هذا معنى قوله، وجماع مراده فيه. وعليه قراءة من قرأ :"لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنُكُم"٥، بالرفع. أي : وصلُكم. وأجاز أبو الحسن في قوله تعالى٤ :"لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُم"، بالفتح أن يكون في موضع رفع، إلا أن فتحة الظرف لزمته، والمراد الرفع. ويمكن عندي أن يكون قوله :
وإني وقفْتُ اليومَ والأمسِ قبلَه بِبابِكَ حتَّى كادَتِ الشمْسُ تغرُبُ٦
المراد فيه "وأمسِ"، إلا أنه أدخل اللام عليه، فعرفه بها، وتركه على ما كان عليه من كسره المعتاد فيه٧، وإن كان قد أعربه في المعنى بإبراز لام التعريف إلى لفظه الذي كان إنما يبنى لتضمنها. وإن حملته على زيادة لام التعريف مثلها في الآن فمذهب آخر. ونظر بعض المولدين إلى حديث "بين" فقال :
انتصَرَ البينُ من البينِ واشتَفَتِ العينُ مِنَ العَينِ

١ رواه اللسان "بين" غير منسوب. والأشطان : جمع شَطَن، بالتحريك، وهو الحبل الطويل، والجال : الجانب. والبئر الجرور : البعيدة. ويُروى "رماحنا" مكان "رماحهم". وفي ك : بين مكان "بئر"، وهو تحريف.
٢ في ك : أن يسيروا في الفيافي.
٣ في الآية ١٨ من سورة سبأ.
٤ ك : قوله، بدون تعالى.
٥ سورة الأنعام : ٩٤.
٦ لنصيب، وانظر الخصائص : ١ : ٣٩٤، ٣ : ٥٧، واللسان "أمس".
٧ ذكر في الخصائص : ١ : ٣٩٤ أن ابن الأعرابي يرويه : والأمس جرا ونصبا.


الصفحة التالية
Icon