رأس البيت، وهذا ليس نقضا للأول، وإنما غرضه فيه أنها أشرف ما فيه، كما أن حوافر الفرس هي أوثق ما فيه، وبها نهوضه، وعليها اعتماده. ولقد تغنّى يوما خفير لنا بشعر مؤسس نحو قوله :
ألا عَلِّلانِي قَبْلَ لَوْمِ العَوَاذِلِ
فلَعهدي به وهو يمطُل الألف حتى يَخْطُوَ به فرسُه الخطوة والعشرين، ولولا ظاهر ما في القولِ لقلْتُ الأكثر. فإذا تجاوز الألف أسرع عند الدخيل، فاختلس الذال والروي بعدها. وكان أيضا يمده بتقبُّل صدى صوته مع تماديه واغتراق أقصى النفَسِ فيه ما كان يعطيه إياه نقل الفرس به؛ فإن ذلك كان يهزُّ الألف، ويصنعها، ويزيل تحيَّرها والساذَجِيَّة المملولة عنها.
وعلى ذكر طول الأصوات وقصرها لقوة المعاني المعبر بها عنها وضعفها ما يحكى أن رجلا ضرب ابنا له، فقالت له أمه : لا تضربه، ليس هو ابنك؛ فرافعها إلى القاضي فقال : هذا ابني عندي، وهذه أمه تذكر أنه ليس مني. فقالت المرأة : ليس الأمر على ما ذكره، وإنما أخذ يضرب ابنه فقلت له : لا تضربه ليس هو ابنك، ومدت فتحة النون جدا، فقال الرجل : والله ما كان فيه هذا الطويل١ الطويل، والأمر يذكر للأمر على تقاربهما، أو تفاوتهما إذا كان ذلك للغرض مُوَضِحًا، وإليه بطالبه مُفْضِيًا. وقد قال :
وَعِنْدَ سَعِيدٍ غَيْرَ أنْ لَمْ أَبُحْ بِهِ ذَكَرْتُكِ إنَّ الأمرَ يُذْكَرُ لِلْأَمْرِ٢
وإذا٣ كان جميع ما أوردناه ونحوه مما استطلناه فحذفناه يدل أن الأصوات تابعة للمعاني - فمتى قويت قويت، و متى ضعفت ضعفت. ويكفيك من ذلك قولهم : قَطَعَ وقَطَّعَ، وكَسَرَ وكَسَّرَ. زادوا في الصوت لزيادة المعنى، واقتصدوا فيه لاقتصادهم فيه - علمت أن قراءة من قرأ :"يَا حَسْرَهْ عَلَى الْعِبَادِ"، بالهاء ساكنة إنما هو [١٣٥و] لتقوية المعنى في النفس، وذلك أنه في موضع وعظ. وتنبيه، وإيقاظ وتحذير، فطال الوقوف على الهاء كما يفعله المستعظم للأمر، المتعجب٤ منه، الدال على أنه قد بهره، وملك عليه لفظه وخاطره. ثم قال من بعد :"على العباد"، عاذرا نفسه في الوقوف على الموصول دون صلته لما كان فيه، ودالَّا للسامع

١ كذا في الأصلين، وقد يكون تحريف "الطول".
٢ الخصائص : ٢ : ٢٦٤.
٣ جواب "إذا" قوله :"علمت" الآتي بعد أسطر.
٤ في الأصل :"المتعجب ومنه"، ولا محل هنا الواو.


الصفحة التالية
Icon