على أنه إنما تجشم ذلك - على حاجة الموصول إلى صلته وضعف الإعراب وتحجره على جملته - ليفيد السامع منه ذهابَ الصورة بالناطق.
ولا يَجْفُ ذلك عليك على ما به من ظاهر انتقاض صنعته؛ فإن العرب قد تحمل على ألفاظها لمعانيها حتى تفسد الإعراب لصحة المعنى. ألا ترى إلى أن أقوى اللغتين - وهي الحجازية في الاستفهام عن الأعلام نحو قولهم فيمن قال : مررت بزيدٍ : من زَيْدٍ؟
فالجر حكاية لجر المسئول عنه، فهذا مما احتُمل فيه إضعاف الإعراب لتقوية المعنى. ألا ترى أنه لو ركب اللغة التميمية طلبا لإصابة الإعراب فقال : مَنْ زَيْدُ؟ لم يَضِحْ من ظاهر اللفظ أنه إنما يسأل عن زيد هذا المذكور آنفا ولم يؤمن أن يُظن به أنه إنما ارتجل سؤالا عن زيد آخر مستأنفا؟
ومن الحمل على اللفظ للمعنى قوله :
يا بُؤْسَ لِلْجَهْلِ ضَرَّارًا لأقْوَام١
فتجشَّم الفصل بين المضاف والمضاف إليه بلام الجر؛ لما يعقبه من توكيد معنى الإضافة، فهذا ونظائره يؤكد أن المعاني تتلعّب بالألفاظ، تارة كذا، وأخرى كذا. وفيه بيان لما مضى.
وقد يجوز غير هذا كله، وهو أن يكون "حسرة" غير متعلقة بـ"على"، فيحسن الوقوف عليها، ثم تُعَلَّق "على" بمضمر، وتدل عليه "حسرة" حتى كأنه قال : أتحسَّر على العباد. وهذا في القرآن ما لا أحصيه لكثرته.
وأما "يا حسرةَ العِبادِ" مضافا فإن لك فيه ضربين من التأويل :
إن شئت كان "العباد" فاعلين في المعنى، كقولك : يا قيام زيد ويا جلوس عمرو أي : كأن العباد إذا شاهدوا العذاب تحسروا.
وإن شئت كان "العباد" مفعولين في المعنى، وشاهده للقراءة الظاهرة :"يَا حَسْرَةً عَلَى الْعِبَادِ"، أي : يتحسر عليهم مَنْ يعنيه أمْرُهُم ويهمُه ما يمسهم، وهذا ظاهر.

١ انظر الصفحة ٢٥١ من الجزء الأول.


الصفحة التالية
Icon