والأمر في ذلك أشهر، وإنما [١٠٤ظ] أراد أن أيديها اختضبن بالدم فاحمررن، فذكر نَعْمة اليد، لأنها مما يصحبها الخضاب.
وعليه قال الآخر :
كأنَّ أيديهِنَّ بالقاعِ القَرِقْ أيدِي عَذارٍ يَتَعاطَينَ الوَرِقْ١
فذكر العذارى؛ لأنهن مما يصحبهن الخضاب، فأراد انخضاب أيدي الإبل بالدم. وهذا ونحوه من لمحات العرب وإيماءاتها التي تكتفي بأيسرها مما وراءه. ألا ترى إلى قول الهذلي :
أمِنْكِ البرقُ أرقبُهُ فَهاجَا فَبِتُّ أَظُنُّه دُهْمًا خِلاجا٢؟
أي : فإذا اختَلَجَتْ عنها أولادَها حنَّت إليها، فشبه حنينهنَّ بصوتِ الرعد، فقدَّم ذكر البرق، وأودع الكلام ذكر حَدث صوت الرعد؛ لأنه مما يصحبه وهو كثير، فكذلك قراءته :"وَرَبَأَتْ"، دل بذكر الشخوص والانتصاب على الوفور والانبساط الذي في قراءة الجماعة :"وَرَبَتْ".
ومن ذلك قراءة مجاهد وحميد بن قيس :"خَاسِرَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةَ"٣.
قال أبو الفتح : هذا منصوب على الحال، أي : انقلب على وجهه خاسرا، وقراءة٤ الجماعة :﴿خَسِرَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةَ﴾ تكون هذه الجملة بدلا من قوله :﴿انْقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ﴾، فكأنه قال : وإن أصابته فتنة خسر الدنيا والآخرة، ومثله من الجمل التي تقع وهي من فِعْلٍ وفاعِلٍ بدلا من جواب الشرط قوله تعالى :﴿وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا، يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ﴾٥؛ وذلك لأن مضاعفة العذاب هي لُقِيّ الأثام، وعليه قول الآخر :
إنْ يجْبُنُو أو يَغْدِرُوا أَوْ يَبْخَلُوا لَا يَحْفِلُوا

١ انظر الصفحة ١٢٦ من الجزء الأول. وفي ك : تتعاطين، وهو تحريف.
٢ البيت لأبي ذؤيب. ويروى أخاله مكان أظنه. والدهم : السود، يريد بها هنا النوق، جمع دهماء. والخلاج : جمع خلوج، وهي الناقة يجذب عنها ولدها بذبح أو موت، فتحن إليه. يقول : أمن ناحيتك هذا البرق يتجاوب الرعد معه كأنه نوق خلاج؟ انظر ديوان الهذليين : ١ : ١٦٤، واللسان "خلج".
٣ سورة الحج : ١١، وقبل هذا الجزء من الآية :﴿وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ﴾.
٤ في ك : فقراءة.
٥ سورة الفرقان : ٦٨، ٦٩.


الصفحة التالية
Icon